وقد اختلفت مذاهب القوم في النقل، أيكون ذلك عن القديم الخالد أم الجديد الحي النابض، فنقلوا عن سوفر كليس كما نقلوا عن جيته، وليس بين القوم خلاف لأن القديم والجديد متعلقان بما يكون ويفسد، ويولد ويموت، ويظهر ويزول؛ أما روائع الفكر فإنها تخرج عن دائرة الزمان وتتصف بالخلود. وكتب أرسطو خالدة على الزمان، وكتابه في النفس من أخلد آثاره وأشدها تجدداً مع تجدد الأيام.
قال في النفس كلمته، وزعم ان النفس صورة الجسم، وتناقل الشراح كلامه وزادوه تفسيراً، وتعددت المذاهب من لدن أفلاطون والمشائين إلى وليم جيمس وبرجسون، فهل حل القدماء مشكلة النفس أو كشف المحدثون عن أسرارها؟
لقد خيل إليّ وأنا أقرأ كلمتك أنك مطمئن إلى رأي المعلم الأول: ولا عجب فهو صاحب المنطق ومبدع القياس ورب الجدل. ثم قلت لنفسي: كيف استطاع اللغوي أن ينفذ إلى أسرار النفس، وكيف عرف الأديب حقيقة أمرها، وقد خفيت عن مؤثر الحكمة طالب المعرفة.
الآن عرفت السر. فأنت صاحب بيان، كهذه طائفة التي ظهرت في بلاد اليونان تعلم هذا الفن للناس يؤثرون به في العقول ويخلبون الألباب. والبيان سر يخفى على الشرح والبيان. وقد قيل بحق (إن من البيان لسحراً). وقالت العرب تصف الأديب إذا نثر، والشاعر إذا نظم الدرر: أنه حلو النفس. وقالوا أيضاً. طويل النفس وقصيرة، كما قالوا: هذا الشاعر عنبري الأنفاس.
وهل الكلام من جنس الطعوم والمشمومات حتى يوصف بهذه الأوصاف ويحمل على محمل المحسوسات؟
وأنت تعلم أن الأديب من باب المعاني وعالم الروح، فكيف يقال نفَس الأريب. أم تُراهم حين عجزوا عن التعبير نزلوا إلى التشبيه، واصرفوا عن التنزيه؟
أم النفْس بالسكون من النفَس بالفتح، فانتهت الحركة إلى السكون؟. . .
ومن غرائب اللغات وأسرارها توافق معنى النفس في اليونانية والعربية. فأصلهما في اللسانين مادي ثم أصبح من المنقول.