وأبطأ الفتى الجندي على رفاقه من الإنكليز، فحفوا في أثره وتسنموا ذرى النجد، فخرج عليهم من ظلال الصفصافة حفنة من الفتيان غضاباً للأعراض والأحساب الكريمة، يحملون ساريات الشواديف وفلولاً من أعجاز النخيل، وانهالت الساريات تدق الضلوع، وتفلق الهام، وتطهر باب الخدر بالدماء، واستعر لهب الملحمة واشتد أوارها، وصرع من عامة الجند نيف وثلاثون.
وجاء النذير إلى دار الشرطة بالمدينة، فقدموا إلى ضوامر الخيل، وطوقوا الحي سهله ونجاده، وحُمل الجرحى إلى مضاربهم، وسيق الفتيان إلى السجن مصفدين في الأغلال.
وحشر أهل المدينة في الدروب والمشارق يستعرضون تلك الفئة القليلة التي غلبت فئة كثيرة بأذن الله، فإذا هم بضعة نفر من البدو غرا محجلين، يمشون في سكينة وعزة ويقين، مشيئة آبائهم مفاتيح النصر إلى اليرموك والقادسية، حيث دكوا عروش الروم وفارس، وجاء على أعقابهم نساء النجد يبكون حماة الحريم ورفات المجد القديم، وفي طليعتهن مقطفة تندي النقاب، وتهتك الحجاب، وتندب الأهل والأصحاب. وعقد مجلس التحقيق فكان مستفيضاً، وطال أمده يومين كاملين.
وجاءت البينات من جنود الإنجليز تشهد جراحاتهم وما تركت الساريات بأضالعهم وسواعدهم وأعجازهم وهامهم، وأنف حماة النجد من الكذب، وراحوا يصورون للقاضي ما كانوا فيه من دعة وسكينة بين الأهل والولد، حتى وثب الجند بالعقائل يستحلون المحارم ويستبيحون الخدور، فقامت سواعدهم بغريزة الذود وسجية الدفاع المشروع.
وكشف للناس فرسان من الإنجليز يمشون في ركاب أمير الجيش إلى المحكمة، ودخل القائد مجلس التحقيق في عتاده وشارات حسن بلائه، فساور القوم قنوط ويأس وظنوا بالله الظنون، وظلوا واجمين بالباب محتسبين عند الله أكرم القرابين. ولهم معذرة، فان مصر كانت في أغلال عرفية لا خيار لها ولا سلطان.
واستنار القائد بدخائل التحقيق وأسراره فنهض إلى الوثائق يجمعها ويطوي سجلها ويحكم رتاجها، ثم عاد إلى مضاربه وبين يديه الجارمون من أهل النجد.