هذا التكرار في اللفظ الأمر بنبأ عن مرارة اللهفة وحرارة الانفعال، وتنبأ عنهما هذه التقطيعات الصوتية التي نكشف لك عن لهاث القلب في هذه الضربات السريعة والمتتابعة والمنعكسة صفحة الألفاظ. . . هذا ثلاثة ألوان للوصف المنشود، أو قل إنها ثلاثة نقلات نفسية مثلا مراحل الحب الثلاث في حياة امرأة عمياء: مرحلة الفرح، ومرحلة الحزن، ومرحلة الخبل العاصف بذرات الأمل. . . مرحلة الفرح يوم إن كان الضياء يجذب كل فراشة هائمة، ومرحلة الحزن بعد أن خبا الضياء وابتعدت عن المصباح كل فراشة هائمة، ومرحلة الخبل في رحاب الظلام المقيم حين لم يبق من الفراشات غير رؤى حالمة وذكريات!
وتبلغ الرؤية الشعرية منتهاها عندما يعرج الشاعر على الجانب الآخر من الصورة المتخيلة، هناك حيث يخطر في البال أنها لم تروجه الحبيب ولكنها فيه ومادامت تفكر فيه عن طريق الخيال ولاعن طريق البصر، فسلامة الرؤيا الشعرية تدفع الشاعر إلى أن يسألها عن صورته التي في الخيال، والتي ينسق طلالها وألوانها الهام القلب:
ومن آدمك المحبوب؟ ... أو ما صورة الصب؟
لقد ألهمت والإلهام ... يا حواء بالقلب!
إنه يسال هنا عن (آدم) وانه ليتخير للفظ ويعنيه. . . لآته يسال الرجل الخالد المستقر في أعماق الأنثى الخالدة أو في أعماق (حواء)! وما الدنيا في منظار القلب وما الدنيا في منظار الحب:
سوى المكشوفة الأسرار والمهتوكة الحجب!!
أداء نفسي. . . أداء غفل عنه الشعر أغفلته موازين النقد! ومن هذه الأداء تلك الصبابة المستعرة بين جوانح وقد (سالت) ألحانا على الأوتار، وتلك الأوتار التي حوت الآباد والأكوان: في (لفظ وفي معنى)! الصورة الشعرية ليست من صنع تهاويل الخيال، ولكنها الصورة التي يرسمها واقع الشعور عند من يدركون اثر الموسيقى الرفيعة في خلق تلك العوالم غير منظورة، العوالم التي ترقى إليها الأرواح في جولة تفارق فيها الأجسام ومرة أخرى تهزك سلامة الرؤيا الشعرية!
وعندما يهتف الشاعر في المقطوعة الأخيرة:(تعالى الحسن يا حسناء) فثق أنه منطق