من تلك الشحنات الانفعالية المصبوبة في حقول التجربة، حتى لتستطيع أن تميز كل لحظة زمنية عاشها الشاعر وتركت ظلها في نفسه وحسه فلحظة الغضب مثلاً لها جوها الموسيقي الخاص، وكذلك لحظة الألم واللذة، ولحظة الدهشة واللهفة، ولحظة الأسى والحنين. . . هذا الشاعر الغاضب في موقف من مواقف الضيق والثورة، تجده هناك: في تلك الموسيقى الصاخبة النغم، ذات الرنين العاصف، ذات المسافات الصوتية الطويلة. وهذا الشاعر النشوان في موقف من مواقف الفرح والبهجة، تجده هناك في تلك الموسيقى الراقصة النغم، ذات الرنين الحالم، ذات المسافات الصوتية القصيرة. وهذا الشاعر الملتاع في موقف من مواقف الألم والحسرة، تجده هناك: في تلك الموسيقى الهادئة النغم، ذات الرنين الخافت ذات المسافات الصوتية المترجحة بين الطول والقصر. . . الطول حين يتشح التعبير بوشاح الحزن المستكن في أغوار النفس تطلقه لحظة من لحظات البث والشكاة، والقصر حين يصطبغ التعبير بصبغة اللهفة العابرة اللوعة التي تلهب الشعور ولا تقيم. وهكذا تجد الموسيقى والتصويرية الصادقة في شعر الأداء النفسي، وهكذا تجد علي طه. . . لقد كان ذلك الشاعر الذي يمثل النموذج الموسيقي الثالث بمسافاته الصوتية القصيرة في (الموسيقى العمياء)، وهو ذلك الشاعر الأخر الذي يمثل النموذج الموسيقي الثاني في (القمر العاشق). . . هو هناك الشاعر الملتاع، وهو هنا الشاعر النشوان!
ونعود إلى موسيقى اللفظ وموسيقى النفس لنقول إننا لا ننكر اثر الموسيقى الأولى في الصياغة الشعرية، ولكن الذي ننكره هو أن يقتصر عليها الشاعر ويوجه إليها كل عنايته؛ ذلك لأن الموسيقى الخارجية من شأنها أن تخاطب السمع وحده دون أن تتسلل إلى تلك القوى الخفية المتناثرة في أفاق الشعور، وإذا كان هذا الأثر يبدو ضئيلاً إذا وقف وحده في الميدان، فإنه يحتل مكانه من غير شك إذا استند إلى الموسيقى الداخلية واعتمد على قيمها الصوتية في النهوض بالأدراء. . . أن موقف الشاعر بين الموسيقى النفسية والموسيقى اللفظية، أشبه بموقف المايسترو بين النوتة الذي يضع أصولها بنفسه وبين فرقة كاملة من العازفين: هذه الألفاظ التي تنقل النغم إلى قارئ الشعر تقوم مقام العازفين الذين ينقلون النغم إلى سامع الموسيقى، كل قيمتهم تتمثل في انهم أدوات ناقلة، النوتة هي التي تمدهم بأصول الأداء الموسيقي كما يجب أن يكون، ومن وراء النوتة يقف المايسترو ليشرف على هذا