للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الأداء. . . أن المايسترو هنا يمثل الشاعر هناك، والنوتة الفنية تمثل الموسيقى الداخلية، ومجموعة العازفين تمثل مجموعة الألفاظ: الفضل كل الفضل للنوتة الموجهة وللقائد المشرف، وبغير هذا وتلك تبدو لك ضآلة الأدوات الناقلة إذا وقفت وحدها في الميدان. . . والأدوات الناقلة التي أعنيها بهذا التعبير هي مجموعة العازفين في الفرقة الموسيقية ومجموعة الألفاظ في الصياغة الشعرية! ولعل هذا التفسير المادي يوضح لك الفارق البعيد بين موسيقى اللفظ وموسيقى النفس، ومدى التفاوت العميق بين أثريهما كعنصري تنغيم في تلوين الانفعالات الذاتية في التعبير.

بعد هذا ننتقل بمجهر التحليل إلى زاوية أخرى من زوايا الأداء النفسي، ونعني بها زاوية (الملكة التخيلية) في شعر علي طه. . . أن أول مزية من مزايا هذه الملكة هي (التجسيم)؛ التجسيم الذي يجعل من الحركة الجامدة حركة حية، ومن الكون المادي الصامت كوناً يموج بالمشاعر والأحاسيس، ومن الصورة التي تعز على المس صورة تدركها الحواس، حتى لتوشك أن تنالها الأيدي وأن تراها العيون. . . هذه القيم الشعرية النادرة تحتشد إحتشاداُ كاملاً في قصيدة (القمر العاشق). هذا القمر الذي أضفى عليه الشاعر من الصفات ما يسلكه في عداد الأحياء، هو النموذج التجسيمي للحركة الجامدة حين تنفث فيها الملكة التخيلية كل معاني الحركة المتوثبة. . . وهي حركة مادية في المقطوعة الأولى تتلوها حركة نفسية، وتتجاوب الحركتان على التعاقب فيما يرد بعد ذلك من مقطوعات. وما قيمة الأداء الذي ننشده إلا في هذا التتبع النفسي الدقيق لكل مشهد تلتقطه العين ويتملاه الخيال، هناك حيث تكون النفس الإنسانية أشبه بمرصد يسجل كل هزة من هزات الوجود الخارجي، ويحدد مكانها من دائرة الشعور والوجدان!

هذه القصيدة تروي لنا قصة، هي قصة القمر العاشق أو قصة الخيال الفريد؛ الخيال الذي ينقله على جناحه إلى تلك الشرفة التي تمدد فيها جسد يهز (قلب الجماد). . . وتلك هي اللفتة الفنية الأولى التي تخرج بها من الفكرة الشعورية التي طافت برأس الشاعر: إنه يريد أن يرتفع بتصوير الفتنة الطاغية إلى أفق يعلو فوق مستوى الآفاق المألوفة في خيال الشعراء. إنه يريد أن يظهر سطوة الجمال الآسر في ثوب لا يكتفي بإثارة الأرض لأنه أحرى بإثارة السماء. . . وحسبه في تصوره تلك الفتنه أن يتخيل المحب المثار كوكباً من

<<  <  ج:
ص:  >  >>