في المقطوعة الأولى تبدأ الحركة المادية حين يرسل المحب المفتون ضوءه إلى الشرفة، وينطلق الأداء النفسي في أثره ليسجل أول ومضه من ومضاته أو أول حركه من حركاته. . . أن العاشق هنا (مضني) يرف ضوءه رفيف (الحلم) ويشرق (إشراقة المعنى)! في كل لفظ من هذه الألفاظ سيل لا ينتهي من الإيحاءات، مصدره قطره تنبثق من هنا وقطره تنبثق من هناك، من تلك الينابيع النفسية التي تطفئ ظمأ التعبير وترطب مسالك الكلمات. . . وفي المقطوعة الثانية تسمع رجع الصدى العميق منعكساً على الصرخة التي يضعها الأداء النفسي في موضعها الطبيعي من الشعر؛ هذه الصرخة يمثلها قوله:(أغار عليك)، وهي رجع الصدى من قوله:(فضمي جسمك العاري) يتبعها قوله: (وصوني ذلك الحسن). . . هذه هي العلاقة النفسية التي تربط بين الألفاظ برباط لا ينفصم، وتنظمها ذلك التنظيم الذي يحدد لكل لفظ مكانه. سمها أن شئت هندسة ألفاظ ومناظر، ولكن لا تنس أنها قبل ذلك هندسة خواطر ومشاعر!. . . ثم ما هذا العاشق الذي (كأن لضوئه لحناً تدق له قلوب الحور)؟ أرأيت إلى أثر التجسيم في الشعر؟ أن التجسيم في الشعر أساسه (التضخم) في الطاقة الشعورية، وفرق بين التجسيم الشعري الذي يبرز خطوط الصورة وبين التهويل الشعري الذي يطمس خطوط الصورة، وإنه لذلك الفرق الذي يكون بين قوة الملكة التخيلية وبين ضعف الرؤية الشعرية! وتطالعك هذه العلاقة النفسية بين الألفاظ مرة أخرى في البيت الثالث والرابع من نفس المقطوعة. . . هذا العاشق العربيد (رقيق اللمس) حين تصغي كل مليحة لندائه وتستجيب لدعائه، ولا يعترض طريقه معترض إذا ما قر رأيه على قرار، ولكنه (جريء) في مواقف التمنع يقدم غير وجل ولا هياب، ويقتحم الحصون على من فيها أن دعاه الشوق ويستلق الأسوار!
هذه هي (الرقة) التي يحويها أول فصل من قصة المحب الصادق يعرضها علي طه أروع عرض نفسي في البيت الأول والثاني من المقطوعة الثالثة: (تحدر من وراء الغيم. . . ومس الأرض في رفق)، هل تستطيع أن تتفيأ تلك الظلال الممتدة على حواشي الألفاظ؟ ألا تحس معي في كلمة (تحدر) ومن بعدها (استأني) ذلك المعنى الذي يحس في خطوات المحب المحاذر الذي يتمهل في سيره ويترفق، خشية أن يحدث صوتاً تستيقظ على أثره