نعم، لقد يشهد الشاعر من مجال الطبيعة ما لم يشهد عامة قومه ولقد يظهر على كثير مما اتضحت به بلاغات آثمة البيان في الأمم الأخرى ولقد يتذوق هذا في لُغاهم، ويتأثر به إلى حد بعيد، ولقد يرى أن ينقل ما يطول من ذلك إلى معشره بإخراجه في لغتهم لينعّمهم ويلذذّهم ويرهف حسهم، ويفتق في أذهانهم، ويفسح في أدبهم بإدخال جديد عليه، وإضافة بديع من الآداب الأخرى إليه، فإن له من ذلك ما يجب، على أن يصوغه في صحيح لغته، ويطبعه على غرار أدبه، ويحتال على تسوية خلقه، حتى يصبح تام المشابه بما ألف قومه، حتى لا يحسوا فيه غربة، ولا يشعروا منه بوحشة، فإذا وفق الأديب إلى هذا وأجاده وأحكمه فهو المجدد التام.
شوقي أمام المجددين:
ولقد ضرب شوقي في الأرض كثيراً، ورأى من صور الطبيعة ومن بدائعها ما لم تتهيأ رؤيته لكثير. وقرأ في الفرنسية لأئمة البيان في الغرب ما لا يكاد يملكه الإحصاء. ولقد أساغ ما استعار، وجرى في أعراقه طلقاً، واستطاعت شاعريته الفخمة أن تجلو منه ما شاء أن يجلو عربياً خالصاً لا شك فيه. وهذه دواوينه تزخر بهذا البدع زخراً.
فاللهم إن كان التجديد ما ذكرنا فشوقي أمام المجددين في هذا العصر غير مدافع. أما إن كان التجديد هو المسخ، واستحداث صور شائهة، وستكراه ألوان من المعاني لا تمت ألينا بسبب، على صيغ لا هي بالعربية ولا هي بالأعجمية، فاللهم اشهد أن شوقي ليس مجدداً بل ليس شاعراً أبداً.
ولقد جال شوقي في كل غرض، وقصد كل قصد، وأصاب من كل معنى، وطال نفسه في اكثر قصيدة إلى ما لم يطله كثير من أنفاس الشعراء، فما ضعف ولا تخلخل ولا أسف، ولا فسلت أخليته، ولا شاهت معانيه، بل لقد يأتي أكثر ما يأتي بالجوهري الرائع من حر الكلام.
وليس شوقي يستدل على مكانة بالبيت أو البيتين في القصيدة، أو بالقصيدة والقصيدتين في الديوان، بل إذا طلبت عليه دليلاً فهذه دواوينه، شق منها ما تشاء، وقع منها على ما تريد لك المصادفة، فلن تصيب إلا ارفع الشعر وافخر الكلام.
وبعد، فلقد مات شوقي وإنحسمت جميع أسبابه من الدنيا، وفرغ من مودَّات الناس ومن