والأصول المدرسية فيخرج عليها، وأن يفارق سنة الاتباع الحرفي لأحكام الرقباء مهما كانوا. ويقول إنه من أجل المحافظة على الفرحة التي تثيرها الدهشة في النفس، والإبقاء على النشوة التي تحدثها الجدة والغرابة في الوجدان، ينبغي أن يظل الكاتب حريصا على التنويع والابتكار في النماذج المعروضة والأحاسيس المجتلاة. ذلك لأنه إذا ضاع التنوع في أعمال الأديب اختلطت النماذج واعتجنت الوحدات وصارت على هيئة رتيبة خالية من الشخصية والحياة، شبيهة بالانقفال والعدم. ويؤكد بودلير دائما هذه الحقيقة: وهي أن الجميل دائما خارق للعادة وخارج على المألوف وغير موافق لما أتى به الغير في نفس المجال.
أما نظريته في الارتباط فهي وثيقة الارتباط بمنحاه الشعري وشديدة الالتصاق بروحه في الفن والتأليف. فبودلير واحد من أولئك الحالمين الذين نشدوا اللذة في استقصاء المجهول، وبحثوا عن المتعة بعيدا عن الحياة الواقعية الكالحة. فأبعد شيء عن فهم بودلير هو القول بالرسالة الاجتماعية والأخلاقية التي يؤديها فن من الفنون والشعر خاصة. وذلك طبيعي ولازم جدا ما دمنا نجد في الانفعال الشعري فسحة من أجل الانطلاق إلى حيث تستطيع النفس أن ترضي شهوتها في البزوغ، وتبعا لما نصادفه أمام وهج الإحساس الفني من اللفحات التي تهبنا كل عوامل الشرود والانبثاق. ففي مقابل الطبيعة التي يلمس بشاعتها، والواقع الماثل الذي يحس بقبحه ودمامته، يضع بودلير عالم الخيال. وهناك يفضل بودلير مظاهر التشوه والمرض على مظاهر الصحة والانسجام، ويضع نتاج الوهم في مرتبة من التقدير والاهتمام أعلى من مرتبة الحقائق الواردة من عالم الحياة.
فالخيال بالنسبة إلى الفنان يعلو على أية موهبة أخرى ويفوق كل ملكات الدماغ. وإذا كان هناك ما يؤيد هذا القول فإننا نكتفي بأن نعرف معرفة أكيدة أن عالم الفنان من خلقه، وأن الدنيا عنده وليدة وهمه وتصوره، حتى نقدر ما لهذه الوظيفة العقلية من أهمية بالغة. فالعالم الظاهري الموجود عبارة عن المجال الذي ينشط فيه الفنان كيما ينتقي آلاته وأدواته، ويختار النماذج والصور اللازمة بالنسبة إليه. ولا يتم ذلك إلا على نحو معين هو الذي يكشف عن مقومات الشخصية التي تقوم بالانتقاء، والذاتية التي تستتر وراء عملية الاختيار. فالمجال الحيوي لنفسية الفنان هو الأشياء الخارجية.