ولا ترجع أهمية الخيال عند بودلير إلى هذا فحسب، وإنما ترجع أيضا إلى اعتقاد بودلير في نوع من الواقعية الداخلية أو من الانطواء الذاتي. وإذا صح ذلك لعب الخيال دوراً كبيراً في أعمال الفنان تبعا للارتباط الحاصل فيما بين التكييف الداخلي ووسائل النقل؛ أعني فيما بين القدرة على التهيئة والإعداد وبين الحواس المختلفة. فالهدف الذي يسعى الفن إلى تحقيقه ذاتي إلى أقصى درجة، والمرمى الذي يبغي النفاذ إليه فردي بحكم الضرورة، ولا يكاد الفنان خاصة من بين كل الناس يفارق نفسه. فالفنان يمتاز أولا وقبل كل شيء بأنه صاحب خيال أو متخيل، يقبس النار من روحه ليضئ بها الأشياء، ويعكس المشاعر على باطنه لتعود فتنير الحياة. فالخيال الخصب عند الفنان هو الذي يوحي إليه بترجمة المظاهر الطبيعية في صورة أشعار منظومة وترانيم حية، وفعل الخيال إنما يظهر حقيقة في عملية الاختيار بين الأشياء التي يتجاوب معها، والأحداث التي ينفعل لها، والمظاهر التي يتأثر بها.
وبناء على هذه الأنظار المتتالية في الخيال والجمال، آمن بودلير بضرورة الفصل بين المهمة التي يقوم بها الشعر والمهمات الأخرى التي تقوم بها علوم الأخلاق والفلسفة. فالشعر لا يعرف شيئاً عن هذه الخدمات التي يزعم بعض أصحاب المدارس الفنية أنها تقوم على يديه وتتأدى به وتخلص عن طريقه. وإذا أخذنا الشعر على أنه أداة اجتماعية لرفع المستوى العام في الأخلاق أو ترقية المنحى الشائع في التفكير، فقد كل ما له من صبغة الذاتية، وصار محكوما عليه بالموت بين أكفان التقليد الزائف، وعلى صحائف الخطابة الجوفاء. وهذا الحكم مبني في نظر بودلير على أساس أن الفن بنقص قدره حينما يخضع لما تمليه عليه الطبيعة الخارجية وعند ما ينحى بازاء مشاهد الحياة.
فالدور الذي يقوم به الفنان لا يعتمد على النقل والتقليد وإنما يعتمد على معارضة الأشياء الموجودة وإنكارها إنكاراً يتمثل في إقحام الذات عند الكتابة النثرية أو الشعرية كلما أمكن. فأول عمل من أعمال الفنان هو إسقاط الطبيعة في الخارج وإحلال النفس الإنسانية محلها. وإذا أمكن هذا أصبح من العسير أن نخضع الشعر للقيود البرانية، وخرجت عن نطاق العمل الأدبي كل محاولة من قبيل الإصلاح والإرشاد والتعليم. وعلى هذا النحو يكون للشعر غرض واحد؛ وهذا الغرض الواحد هو نفسه. وفي صورته العليا أو على نحوه