الأمثل تغيب عن الشعر كل نزعة سياسة وتختفي مظاهر البحث الفلسفي حتى يبقى في النهاية جوهرة الفردي العميق.
وإذا نظرنا في هذه الآراء التي سردها بودلير والتي آمن بها إلى آخر حياته، وجدناها لا تخلو من اتجاه موحد أو من نظرية مستقلة. وعلى الرغم مما قد نجده في شعره من توزع بين كثير من المذاهب الشعرية ومن تأثر بما شاع وقتئذ من المدارس لا نكاد نعثر في نقده على خطوط غير أصيلة أو على سمات طفيلية. ويستطيع النقاد بعد تحليل بسيط أن يوقفوك على عناصر رومانتيكية أو على عناصر برناسية في شعر بودلير؛ أما في موقفة النقدي فلا يمكنهم إلا أن يقروا بشخصيته الناقدة التي تقف في الناحية المقابلة للرومانتيكية والتي تسخر من البارناسية وتواجه المذهب الواقعي بدون أي تراجع أو انثناء عن نزعته الفردية الواضحة وعن إيمانه الفني الخاص به دون سواه.
ومما يلاحظ في النهاية أنه لا يستطيع واحد من الناس اتباع ما جاء في كلام بودلير من الأفكار وما تخلل عباراته من الآراء النقدية. وذلك لأن بودلير لم يعمل على إتمام حلقات مفقودة كثيرة في طيات مذهبه، ولم يكن من المثابرة والانكباب بحيث يمكنه أن يأخذ شيئاً من الأشياء مأخذا جديا وأن ينظر إلى الحياة نظرة فيها عناية أو غيرة أو اهتمام. والعيب الأصيل الذي يتمثل في غياب عنصر الحيوية من النقد البودليري إنما يأتي عن هذه الروح الذاتية المفرطة التي أمتاز بها الرجل طيلة أيامه على الأرض. كان فرديا زيادة عما يلزم بالنسبة إلى ناقد يريد الخير للأدب وينشد الرفعة للفن الذي يعمل كاهنا في محرابه. وكان يشعر بالعبث والتفاهة في شئون الحياة على نحو أفقده كل اعتبار للتقدم وكل تقدير للارتقاء الذي تصيبه الأعمال العادية.
وإذا ذهبنا إلى القول بأن بودلير لم يكن قادراً على تركيز مجهوداته في عمل من الأعمال أو بذل عنايته في باب من الأبواب فليس معنى ذلك أنه كان قليل الأهمية في تاريخ النقد؛ لأن مذهبه النقدي لا يخلو من نفحة عبقرية استندت إلى فلسفة في التحليل وجمال في التفصيل وقوة من الأداء. ويقول (رينيه لالو) تأييدا لكلامنا هذا في كتابه عن مراحل الشعر الفرنسي (ص٨٦) إن مقالتيه عن الفن الرومانتيكي والتشوفات الجمالية تثبتان ضلاعة مواهبه النقدية. وأغلب ظني أنه استفاد كثيرا من التوجيهات التي كان يصدرها في تعليقاته