قال (سعيد): (نعم) وفسر (نعم) بأحسن تفسيرها وابلغه، فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجه على ثلاثة دراهم (خمسة عشر قرشاً). ثلاثة دراهم مهر الزوجة التي أرسل يخطبها الخليفة العظيم لولي عهده بثقلها ذهباً لو شاءت.
وغشي الفرح هذه المرة عيني الرجل وإذنيه، فإذا هو يسمع نشيد الملائكة يطن لحنه:
(أنا، أنا، أنا. . .)
ولم يشعر انه على الأرض، فقام يطير، وليس يدري من فرحه ما يصنع، وكأنه في يوم جاءه من غير هذه الدنيا يتعرف إليه بهذا الصوت الذي لا يزال يطن في إذنيه:(أنا، أنا، أنا)
وصار إلى منزله وجعل يفكر ممن يأخذ، ممن يستدين؟ فظهرت له الأرض خلاء من الإنسان، وليس فيها إلا الرجل الواحد الذي يضطرب صوته في إذنيه:(أنا، أنا، أنا. .)
وصلى المغرب وكان صائماً، ثم قام فأسرج، فإذا سراجه الخافت الضئيل يسطع لعينيه سطوع القمر، وكأن في نوره وجه عروس تقول له:(أنا، أنا، أنا. . .)
وقدم عشاءه ليفطر، وكان خبزاً وزيتاً، فإذا الباب يقرع؛ قال: من هذا؟ قال الطارق: سعيد!. .
سعيد؟ سعيد؟ من سعيد؟ أهو أبو عثمان؛ أبو علي؛ أبو الحسن. فكر الرجل في كل من اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيَّب؛ إلا الذي قال له:(أنا. . .)
لم يخالجه إن يكون هو الطارق، فان هذا الأمام لم يطرق باب أحد قط، ولم ير منذ أربعين سنة إلا بين داره والمسجد.
ثم خرج إليه، فإذا به سعيد بن المسيب، فلم تأخذه عينه حتى رجع القبر فهبط فجأة بظلامه وأمواته في قلب المسكين وظن أن الشيخ قد بدا له، فندم، فجاءه للطلاق قبل أن يشيع الخبر، ويتعذر إصلاح الغلطة! فقال:(يا أبا محمد، لو. . لو. . لو - لو أرسلت إليَّ لأتيتك!)
قال الشيخ:(لأنت أحق أن تؤتى)
فما صكت الكلمة سمع المسكين حتى أبلس الوجود في نظره، وغشى الدنيا صمت كصمت الموت، وأحس كأن القبر يتمدد في قلبه بعروق الأرض كلها! ثم فاء لنفسه ونقدر أن ليس