إلى حضرة الملك القمقام، الكامل العادل، الزاهد المجاهد، المرابط الهمام أبى القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر، ناصر الإمام، أدام الله ظل دولته على كافة الأنام، وأبقاه مسلماً من الأسواء، منصور الأعلام، منتقماً من عداة المسلمين الكفرة والطغام، معظماً لحملة الدين بإظهار الإكرام لهم والاحترام، منعماً عليهم بإدرار الإحسان إليهم والإنعام، عافياً عن ذنوب ذوي الإساءات والإجرام، بانياً للمساجد والمدارس والأسوار، ومكاتب الأيتام، راضياً بأخذ الحلال ورافضاً لاكتساب الحطام، آمراً بالمعروف زاجراً عن ارتكاب الحرام، ناصراً للملهوف وقاهراً للظالم العسوف الانتقام، قامعاً لأرباب البدع بالإبعاد لهم والإرغام، خالعاً لقلوب الكفرة بالجرأة عليهم والإقدام)
وأما صلاح الدين فكان يقدر ابن عساكر عظيم التقدير، وكان الحافظ يحضر مجالس السلطان، ثم انصرف عنها حيناً، لما كان يمتاز به صلاح الدين من ديمقراطية سوغت وجود اللغط في مجالسه. فلما تكرر من صلاح الدين الطلب له حضر، وعاتبه صلاح الدين فقال له الحافظ: (نزهت نفسي عن مجلسك فإنني رأيته كبعض مجالس السوقة، لا يستمع فيه إلى قائل، ولا يرد جواب متكلم، وقد كنا بالأمس نحضر مجلس نور الدين، فكنا كما قيل: كأنما على رؤوسنا الطير، تعلونا الهيبة والوقار، فإذا تكلم أنصتنا، وإذا تكلمنا استمع لنا. فتقدم صلاح الدين إلى أصحابه أنه لا يكون منهم ما جرت به عادتهم إذا حضر الحافظ، فلما مات حضر السلطان صلاح الدين الصلاة عليه ومشى في جنازته. وعاش ابن عساكر منصرفاً إلى فنه، لا يتطلع إلى أسباب الدنيا، معرضاً عن المناصب، بعد عرضها عليه ليس له منها سوى أستاذيته لدار الحديث، كثير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، موجهاً همه إلى إذاعة حديث رسول الله.
وكان يدين بمذهب الأشعري، وينافح عنه؛ وألف في ذلك كتاباً سماه: تبيين كذب المفتري، فيما نسب إلى أبي الحسنالأشعري، رد به على الحسن بن علي الأهوازي الدمشقي، المتوفى سنة ٤٤٦، وكان يكره مذهب الأشعري ويضعفه.
ولم يزل ابن عساكر خادماً للسنة، قائماً بأنواع العبادة: من صلاة وصيام واعتكاف، وصدقة ونشر علم، وتشييع جنازة وصلة رحم، إلى أن مات ليلة الاثنين الحادي والعشرين من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وقد رثاه المعجبون به بقصائد عدة، وترك ابناً هو