فيها من الشعر، وقصوا ما جرى عليها من الوقائع؛ ولم يتركوا من مناطق البدو ووسائل حياتهم ومظاهر اجتماعهم ومختلف عاداتهم لفظة ولا لهجة ولا حالة ولا أداة ولا لعبة إلا جمعوها ودونوها، حتى الكلمة الغريبة والعبارة المهجورة والصيغة المماتة، فإجتمع لهم من كل أولئك سجل محيط شامل فرضوه بفضل هذه القداسة على جميع المتكلمين بالعربية في العصور الأربعة والقارات الثلاث، فظلوا على رغم ما بلغوه من السلطان والعمران والمدنية والعلم والأدب والفن يستعملون أمثال البدوي وصوره وأخيلته ومجازاته وتشبيهاته وكناياته، فيقولون مثلاً: جاءوا على بكرة أبيهم، وألق دلوك في الدلاء، وقلب له ظهر المجن، وضرب إليه أكباد الإبل، وركب إليه أكتاف الشدائد، واقتعد ظهور المكاره، وأنبت حبل الرجاء، وضل رائد الأمل، وهو شديد الشكيمة، وله غرر المكارم وحجولها، وإن حلمه أثبت من ثبير، وأوقر من رضوى، وأوسع من الدهناء. ولو ذهبت أستقصي هذه الأوضاع وتلك التراكيب لما أبقيت في المعجم إلا المصطلحات التي فرضها الدين، والمعربات التي أقحمتها الحضارة.
ثم اعتقدوا أن اللغة قد كملت في عهد الرواية كما كمل الدين في عهد الرسالة، فختم الرواة السجل، وأغلق علماء اللغة باب الوضع، كما أغلق فقهاء السنة باب الاجتهاد، وتركوا الأمة العربية التي امتد ملكها من الهند والصين شرقاً إلى جبال ببرانس غرباً، تتعامل خارج البرصة، وتتجاوز حدود المعجم، كأنهم نسوا أن اللغة لا يمكن أن تثبت ثبوت الدين، ولا أن تستقل استقلال الحي، لأنها ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم؛ والأغراض لا تنتهي، والمعاني لا تنفد، والناس لا يستطيعون أن يعيشوا خرساً وهم يرون الأغراض تتجدد، والمعاني تتولد، والحضارة ترميهم كل يوم بمخترع، والعلوم تطالبهم كل حين بمصطلح، ولا علة لهذا الخرس إلا أن البدو المحصورين في حدود الزمان والمكان لم يتنبئوا بحدوث هذه الأشياء، ولم يضعوا لها ما يناسبها من الأسماء:
ترتب أيها السادة على إغلاق باب الوضع، وتخصيص حكم القياس، وتقييد حق التعريب، وإنكار وجود المولد، وطرد الأمة العربية بأسرها خارج الحدود، أن حدث أمران خطيران كان لهما أقبح الأثر وأبلغ الضرر في كيان اللغة وحياة الأدب.
الأمر الأول طغيان اللغة العامية طغياناً جارفاً حصر اللغة الفصحى في طبقات العلماء