والأدباء والكتاب والشعراء، يكتبون بها للملوك، ويؤلفون فيها للخاصة؛ وسيطر على حياة الأمة في شؤونها العامة وأغراضها المختلفة؛ لأن العامية حرة تنبو على القيد، وطبيعية تنفر من الصنعة؛ فهي تقبل من كل إنسان، وتستمد من كل لغة، وتصوغ على كل قياس، وبذلك اتسعت دائرتها لكل ما استحدثته الحضارة من المفردات المولدة والمقتبسة في البيت والحديقة والسوق والمصنع والحقل. والناس في سبيل التفاهم يؤثرون السهل، ويستعملون الشائع، ويتناولون القريب. وتخلف اللغة عن مسايرة الزمن وملاءمة الحياة معناه الجمود. والنهاية المحتومة لجمود اللغة اندراسها بتغلب لهجاتها العامية عليها وحلولها محلها، إذ تكون بسبب مرونتها وتجددها، أدق تصويراً لأحوال المجتمع، وأوفى أداء لأغراض الناس. وهذا ما حدث للغة اليونانية القديمة حين خلفتها اليونانية الحديثة، وللاتينية حين ورثتها الفرنسية والإيطالية والأسبانية. وهذا ما يحدث حتماً للعربية الفصحى لولا أنها لغة القرآن. واللغات السامية كما يقول (رينان) مدينة ببقائها للدين، فلولا اليهودية ما بقيت العبرية، ولولا المسيحية ما عاشت السريانية، ولولا الإسلام ما حفظت العربية.
والأمر الآخر حرمان الفصحى كل ما وضعه المولدون من الألفاظ، وما اقتبسوه من الكلمات؛ لأن اللغويين الذين أقاموا أنفسهم على أسرار اللغة مقام الكهنة على أسرار الدين، أبو أن يعترفوا بهذه الثروة اللفظية الضخمة لصدورها عمن لا يملك الوضع والتعريب بزعمهم، فحرموا اللغة مورداً ثراً كان يقيها الجفاف والذبول، ويؤتيها النماء والخصب. ولولا أن العلماء والمترجمين - وجلهم من غير العرب - تجاهلوا أوامر اللغويين في الوضع والتعريب لما استطاعوا أن ينقلوا إلى العربية علوم الأولين من فرس ويونان وهنود ويهود، ولما قال أبو الريحان البيروني في العربية:(وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم فازدانت وحلت في الأفئدة، وسرت محاسن اللغة منها في الشرايين والأوردة. والهجو بالعربية أحب إلى من المدح بالفارسية).
وقد أدى احتقار اللغويين للغة المولدين إلى احتقار الأدباء لأدب العامة. فكما أن أولئك لم يدونوا في معجماتهم الكلام المولد، لم يدون هؤلاء في مؤلفاتهم الأدب الشعبي. ولو أنهم دونوا أحسن ما دار على الألسنة في جميع الطبقات والبيئات من الأمثال والحكم والمجازات والكنايات والطرف لوفروا للغة الفصحى وللأدب العالي مورداً لا ينضب ومادة