للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لا تنفد. فإن العامة كانوا تسعة أعشار الأمة العربية وهي في أوج سلطانها، وأكثرهم أعقاب أمم مختلفة الجنسية والعقلية والعقيدة، دخلوا أو عاشوا في كنفه، واتخذوا العربية العامية لغة لهم أودعوها معانيهم وتصوراتهم، وأفضوا إليها بأسرار لغاتهم؛ فكانت أمثالهم تسير، وأقاصيصهم تحكى، ومصطلحاتهم تنقل، ومواضعاتهم تذيع. فإذا كانت الفصحى نهراً تجمع من أمطار، فإن العامية بحر تجمع من أنهار. والنهر إذا أخلفه الغيث غاضت منابعه وجفت مجارية، ولكن البحر إذا اخلفه رافد هنا أمدته روافد هناك.

ولست أذكر مزايا العامية لأهتف بها وادعوا إليها، وإنما ذكرتها لأقول إن سادتنا اللغويين وأدباءنا الأولين لو أنهم أزالوا هذا السد الذي جعلوه بين اللغتين لاكتسب الفصحى من العامية السعة والمرونة والجدة، واكتسبت العامية من الفصحى السلامة والصيانة والسمو، ولكان لنا من تداخل اللغتين وتفاعلهما لغة واحدة تجمع بين محاسن هذه ومحاسن تلك. فأما مساوئ الفصحى أو عنجهيتها فتموت كما يموت الحوشى المهجور من كل لغة. وأما مساوئ العامية أو حثالتها فتبقى على الألسنة التي تستذيقها من الطبقات الدنيا وتكون هي اللغة العامية التي لابد منها في كل لغة من لغات العالم؛ ولكن بالنسبة القليلة التي لا تطغيها على الفصحى ولا تفرضها على الناس.

سادتي: ي إن حق المحدثين في الوضع مقرر بالطبيعة فلا مساغ للنزاع فيه. وإن الذين أنكروه لم ينكروه بقول يناقش ولا حجة تسمع. إنما قولهم فيه أشبه بقولهم في كتابة المصحف. فقد قالوا لابد أن نكتب القرآن بالرسم الذي كتب به في زمن عثمان، فنكتب الصلاة بالواو ونلفظها بالألف، ونكتب والسماء بنيناها بأيد بياءين ونلفظها ياء واحدة، ونكتب لشيء بألف زائدة بين الشين والياء وننطقها بدونها. ولو كان هذا الرسم موحى من الله على رسوله لآمنا به وحرصنا عليه، ولكنه من عمل قوم كانوا قريب عهد بالخط فوقع فيه الخطأ والنقص والإشكال. والغرض من كتابة القرآن أن نقرأه صحيحاً لنحفظه صحيحاً، فكيف نكتبه بالخطأ لنقرأه بالصواب، وما الحكمة في أن نقيد كتاب الله بخط لا يكتب به اليوم أي كتاب؟ وإذا احتجنا في دفع هذه الأقوال إلى غير الوجدان فلن يصح في الذهان شيء كما يقول أبو الطيب.

بقي أن نعرف من هو المحدث الذي له الحق في الوضع. أهو فرد معين أو جماعة معينة

<<  <  ج:
ص:  >  >>