أعود وإياها فأبت وأبيت حذراً من الشقاق والصياح الذي يقع بين الضرائر (وسيدي سيد العارفين بأحوال المرأة والعائلة الإسلامية واضطراباتها). فازدادت حينئذ الشدة والمحنة حتى آثرت الانتحار (كنا في مشكلة واحدة فصرنا في اثنتين؛ والآن يأتي ذكر الثالثة). ولم يمض على ذلك سنة أو أقل حتى بدا لوالدي أن يطلب مني (وكالة عامة مطلقة) في المحكمة الشرعية بأملاكي جميعها (وأملاكي هو الذي كتبها لي، وأصل المال من الوالدة) فقلت: هذه هي الطامة الكبرى، ورفضت طلبه. عندئذ ازداد الضغط وازداد طغيان الوالد؛ فتذبذبت بين أمرين إما الانتحار، وإما السفر إلى أوربا ومغادرة هذه البلاد. فبعت قطعة أرض لي بثمن قليل ليوصلني إلى جنيف، ويكفيني سنة واحدة ثم قلت: يخلق الله مالا تعلمون. فلما علم بما أتيت عمل ما عمل
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن شراً ولا تسأل عن الخبر
فتركته حينئذ وقطعت كل علاقة به واجتزأت بعشر ليرات أنفقها علي وعلى أمي. وقلت لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. وقد أحدث الله نصف أمر: فأنتخب والدي مبعوثاً، استفادت القدس بانتخاب والدي لأنها لن تجد خيراً منه على ما أظن، واستفدت أنا لأنه تركني فاسترحت قليلاً وتنفست. والحمد لله على كل حال. وهنا نكتة جميلة أذكرها لسيدي: لما فض مجلس المبعوثان اجتمع روحي بك الخالدي في ناد في الأستانة. فقال له أحد أصحابه: إنا نجد في الجرائد ذكر إسعاف النشاشيبي من القدس كثيراً ونطالع له ما نطالع، وأظنه يصلح للنيابة. فتبسم روحي من قوله، وقال إن إسعافا لم يجز له حتى الآن أن ينتخب المنتخب الثانوي فضلاً عن أن ينتخب مبعوثاً. هذا صحيح لكن إكراماً لذلك الرجل فقد أرسلت والدي للمبعوثان بالنيابة عني. . . هذه قصتي مع والدي أورسيل والد (ابن الزيات) الأديب الوزير، وهي مجملة كثيراً. ولو أردت التفصيل لطال الأمر جداً. ولا يظن سيدي أن والدي استأثر بهذه الخلائق الغريبة (وإن كان قد سبق بها غيره) فآباء الأسر (الشريفة) الماجدة في هذه الطبائع سواء. و (كل تراه من أبيه شاكياً) غير أن ألم كل واحد من الأبناء بمقدار شعوره وإحساسه وعقله.
يقول سيدي: الآن فهمنا قصتك فما السبب في الميل إلى (البرهان) إذ لكل شيء في الكون سبب. فأجيب إن للأستاذ المغربي استيلاء على نفس (إسعاف) غريب لم يستوله أحد سواه