للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إليها. ولكن شيئاً ما لا يجعلنا نؤمن بالحرية الإنسانية في عملية الاختيار قدر ما تجعلنا هذه الصعوبات نفسها نؤمن بها. لأن الحرية إنما تعرف بالحيلولة بينها وبين الوجود وبالعقبات التي تصادفها وبالموانع التي تبطل عملها أكثر مما تعرف بالانسياب المطلق والإرادة البريئة والاستقلال التام. إن الشعب المستعبد هو الذي يتحدث عن الحرية، والعبد وحده، من بين خلق الله، تجول بذهنه فكرة العمل الفردي البعيد عن المؤثرات والرغبات الأخرى. ويقول سارتر نفسه في مقال له بعنوان جمهورية الصمت في الجزء الثالث من كتابه (المناسبات) الذي ظهر أخيراً: لم نكن قط أكثر حرية مما كنا تحت ظلال الاحتلال الألماني حيث فقدنا كل حقوقنا وبالتالي فقدنا حق الكلام، فقد كانوا يشتموننا في وجوهنا كل يوم، وكان ينبغي علينا أن نسكت. وكانوا ينفوننا جماعات جماعات كالعمال والمعتقلين السياسيين. وكنا نجد في كل مكان، على الحوائط وفي الصحف وفوق شاشة السينما، تلك الوجوه القذرة الباهتة التي حاول مستعمرونا أن يعطوها لنا عن أنفسنا. وبسبب هذا كله كنا أحراراً.

أرأيت إذا إلى هذه الحرية الغريبة عند سارتر. إنها تتوقف كما ترى على الحوائل والموانع أكثر مما تتوقف على الأنفكاك والطلاقة. إنها حرية تنبئ على الوضع القائم ولا تجنح إلى الخيال. وتنبع من صميم الوجود الحاضر المتمثل في الظواهر المحيطة والأشياء المجتمعة. لقد سبق أن قلنا عن المعدوم أنه لا يعرف العدم وأن الميت لا يدري قط معنى الموت؛ أما الحي فهو عالم تماماً بالموت ومدرك تماماً لمدلوله، وكذلك هنا نستطيع أن نقول عن الحرية أنها لا يعرفها إلا العبيد والمأسورون والمحاطون بالقيود والحواجز.

وهذه الحرية، بالإضافة إلى ذلك، قائمة على أساس اختيار غاية من الغايات وانتقاء هدف من الأهداف، وبكلامنا في هذا العنصر وتوضيحنا لهذا المعنى سنقرر أولا كيفية استكمال ما قصدناه في النقطة الثانية، وسنبدأ ثانياً بالحقائق والشروح التي تتضمنها النقطة الثالثة. فأنا حين أختار غاية دون غيرها من الغايات آتي على فعل واضح كل الوضوح بالنسبة إلي وهو أنني قد آثرت شيئاً على سواه. وينبغي أن نلاحظ هنا الفارق الكبير الموجود بين عملية الاختيار وبين عملية الانتقاء. فهذا الأخير عبارة عن تفضيل شيء بحكم فائدته المرجوة ونفعه المنتظر، وبحكم امتيازه من ناحية القيمة الكامنة فيه واللذة التي تعود من

<<  <  ج:
ص:  >  >>