ودباباتها، كأنما ثار بكان، أو أشعلت نيران، أو طغى طوفان، وأظلم الجو من الغبار المتطاير، والعثير السائر، وما هي إلا ساعات حتى انجلت الموقعة، عن القعلة الرهيبة سليمة حصينة كعملاق جبار يعبث بشسع نعلة أطفال، أو كالهرم الخالد تتدهدى عليه حبات الرمال، بل كثلان تغدو وتروح عليه النمال. ثم انجلت الموقعة عن بحار من دم التتار، وأكوام من أشلائهم وتلال من رءوسهم، أما أرجواش وصحبه قهم في قلعتهم سالمون، وبالنصر فرحون مستبشرون (فلله درَّهم ما كان أثبت جأشهم وأقوى جنانهم.)
احكمي يا مصر:
لقد كانت الموقعة هائلة، وكان وقعها في نفوس التتار أهول، فلم يطيقوا في الشام كلها بعد ذلك بقاء، وولوا الأدبار بمن بقي معهم إلى بلادهم هاربين، وفي إثرهم قبجث الخائن وصحبه، ونزل أرجواش من القلعة واستولى على دمشق، وأعاد الخطبة لسلطان مصر وزينت البلاد ابتهاجاً بهذا النصر، وطار الحمام الزاجل بالنبأ إلى قلعة صلاح الدين بالقاهرة، فعاد جيش مصر إلى الشام، وهناك أمام قلعة دمشق انحنى قائد الجيش المصري العائد (سلاَّر) لحماة مصر والشام، وأبطال قلعة دمشق؛ تمجيداً وتعظيماً (وفرح أهل الشام قاطبة، وعلموا أن في عسكر الإسلام القوة والمنعة، ولله الحمد)
يأبكم المفتون:
أتدر بماذا ينعت العلماء والمتصوفة أرجواش؟ أنهم يصفونه بالغفلة والجنون، ويكثرون التندر عليه والتهكم منه ويسوقون في ذلك حكايات كثيرة برهاناً على صدقهم. وهاك حكاية واحدة لا شك أنها في وضعهم، وما أقدرهم على الكذب، وإنما اخترت هذه الحكاية دون غيرها لأنها من رواية عالم هو الصفدي عن متصوف هو عبد الغني الفقير، قال سامحه الله:
(لما مات الملك المنصور قلاوون - أستاذ أرجواش - قال لي:
أحضر لي مقرئين، يقرءون ختمة للسلطان، فأحضرت إليه جماعة جعلوا يقرءون القراءة العادية، فأحضر أرجواش سيفاً وقال:
كيف تقرءون للسلطان هذه القراءة! أقرءوا عالياً، فضجوا بالقراءة جهدهم، فلما فرغوا منها