للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وفي غسق يوم ذهبي، بلغا إحدى القرى. وكانت قرية صغيرة ذات شارع واحد يمتد على منحدر التل، وينتثر بين الأشجار بضعة منازل فحسب. بيد أنه قبل أن يضع بيترسون معزفه احتشد جمع من الأطفال حوله. وكانوا يهتفون بحبور لدى رؤيتهم بيبي، الذي كان يعابثهم بحركات وجهه، ويأتي بحركات مضحكة، وكلما ازدادوا ضحكاً ازداد سروراً. فلما صدحت الموسيقى، فخمة، مكهربة، كان في نشوة من الحيور، ومالت قبعته المريشة وهو يرقص، وأخذت ساقاه النحيفتان تتحركان بسرعة تزداد شيئاً فشيئاً.

وأخذ الحشد يزداد، وانضم إليه الآن بعض الكبار أيضاً، وكان بينهم شيخ حسن البزة يدخن غليوناً كبيراً، ويطرق برأسه مع الإيقاع الموسيقي، وكان يرمق بيبي بعطف وهو يرقص، وبيترسون وهو يدير يد المعزف كأنه رجل يبعث أسى قديماً، ولما انتهى الدور الثاني، ألقيت بضع نقود في قبعة بيترسون، ولكنها كانت قليلة، فأهل الريف في كرمهم محتاطون. وبينما هو يتأهب للذهاب أقبل الشيخ ذو الغليون وحدثه قائلا (لي حفيد صغير مريض، ولأن الليلة عيد الميلاد، فإنني أرغب أن أقدم إليه متعة فريدة، فهلا قبلت أن تأتي وتلعب له؟ أقصد بجوار فراشه لكي يستطيع أن يرى القرد وهو يرقص؟).

فأطرق بيترسون موافقاً، فلم يكن يحب استعمال الكلمات إذا استطاع إلى ذلك سبيلا. وانطلقا في الطريق معاً - حتى بلغا (فيلا) ذات سقف أحمر، تقوم بين دغل من الأشجار السامقة. ودفع الرجل باب السور، وتبعاه في الممشى المبلط الملتف حول أحواض الزهر المتلألئة حتى بلغا المنزل. ولما وصلا إلى السلم كان بيبي يهمهم بأصوات التطلع والتحمس؛ بيد أن بيترسون كان يمشي بعزم. ولكنهما ما كادا يجتازان عتبة البيت حتى وقف كالمأخوذ. فقد كان في منتصف البهو الواسع الجنبات شجرة من أشجار عيد الميلاد مشرقة بالأنوار.

ووقف بيترسون ساكناً لا يريم، وطرفه معلق بالشجرة. لم تكن شجرة حقيقية، ولكنها صنعت بمهارة من الورق المقوى والقماش، غير أنها كانت في نفس بيرسون محملة بالذكريات كأنما ينبعث من أبرها صمغ الصنوبر من مسقط رأسه، وكأنها تميل أمام الرياح العاتية في تلك الخلجات البعيدة، حيث الوجوه القديمة المحبوبة، وقد حدثته الشجرة بلغتهم، وهي تهمس في رفق عبر السنين التي تفصيل بينهم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>