ويأكلوا في المطبخ. وأطرق بيترسون إطراقه خرساء. وخرج دون أن يجرؤ على النظر مرة أخرى.
وبعد بضع ساعات، حينما عادوا إلى البهو كانت الشجرة متلألئة كسماء صافية بالليل. كانت مئات الشمعات تبرق على أغصانها، وحولها لفيف من الناس يتكلمون ويضحكون كانوا يتنادون بالأسماء في ثقة كأنهم بذلك ينطقون بكلمة السر التي تسمح لهم بالدخول إلى وليمة الحياة. وكان الجو المرح، مرح القلوب المؤتلفة، يندفع كالغيم المتألق فوق رؤوسهم، ولم تلمس بيترسون الومضة المتألقة، وأحس أنه مطرود كلل. وظن لحظة أنه رأى العينين الزرقاوين اللتين أثرتا فيه كل هذا التأثير، ولكنهما غابا ثانية. وأنزل المعزف باحتراس في أحد الأركان وانتظر الإذن بالعزف.
وسرعان ما أعطاه الشيخ ذو الغليون الإشارة. وصحا بيبي الذي كان ممسكاً بلحيته وهو نعسان بدافع الخوف من صوت الموسيقى وقفز على سطح المعزف ولكن لم يلق إليه أحد بالا. فقد بدأ الناس يرقصون، رقصة الفالس على إيقاع الموسيقى، التي كانت تنبعث في اضطراب من المعزف القديم، وهم يغنون بصوت أعلى من صوته المنكسر، في حبور وانشغال حتى أن أحداً منهم لم يدرك متى تنقطع عن العزف. وتراجع بيترسون إلى ركنه، وهو من ارتباكه لا يستطيع معرفة السبيل إلى الخروج.
ودوت في الغرفة أصوات أجراس كنيسة آتية من بعيد ولكنها واضحة. وسكن القوم فجأة، وأقبل الشيخ نحو بيترسون ووضع في يده حفنة من النقود، وهو يشكره بأدب. فهم بيترسون يرد عليه ثم رفع معزفه إلى كتفه، وأخذ بيبي النعسان في ذراعيه وكان على مقربة من الباب عندما أبصر العينين الزرقاوين مرة أخرى وابتسمتا له من بعيد، وابتسم الوجه جميعه في ثنيات تصاعدية حتى أصبحت بيضاء اللون. وجمدت ملامحه وهي تعبر عن أسى بالغ، وكان وراءها دموع لم تذرف. فهو الذي مضت عليه سنوات لا يعرف له سكناً يأويه، ولا طريقاً يفضله عن طريق. هو الذي لم يكن له من رفيق سوى قردة الراقص، أدرك فجأة أنه سوف يعرف الآن الوحدة الحقة. شجرة صنوبر شمالية معلق بها أنوار، عينان جميلتان، وللمرة الأولى اللوعة الكاملة للفراق. . . وأحنى رأسه، بشكل مضحك. لقد كان يقول كلمة الوداع.