منطق الذهن في تعبيره النثري على منطق النفس في تعبيرها الشعري، ولا تطغى الطاقة الفكرية ذات التجريد المادي الخالص على الطاقة الشعورية ذات التصوير المعنوي الخالص؛ وهذا هو مفرق الطريق بين أداء يدور حول محور الواقعية بسلسلة من الخواطر الذهنية وبيم أداء يدور حول المحور نفسه بسلسلة من المشاعر النفسية!
نريد في شعر الأداء النفسي هذه الواقعية النفسية؛ الواقعية التي تفتش عن الحقائق الوجودية الكبرى في مجاهل الكون ومتاهات العقل، حتى إذا التقطت تلك الحقائق قذفت بها إلى ذلك المصهر الكبير مصهر النفس الإنسانية، ليخرجها لنا بعد ذلك مصبوبة في قالبها الملائم الذي تقوم بصنعه ملكة (الوعي الشعري). . . ولا بد من وجود هذه الملكة وراء كل واقعية نفسية، لأنها هي وحدها العنصر المسئول عن تنظيم كل حقيقة كونية يعرضها الفكر في ساحة الوجود الداخلي. فإذا أغفلت هذه الملكة عن عملية الإشراف الفني العام فقد تعرضت الواقعية النفسية للذبذبة في قضايا الفكر وللمغالطة في منطق العاطفة، وهما الجانبان اللذان يعبر عنهما في موازين النقد الحديثة (بالذبذبة الفكرية) و (المغالطة العاطفية)! هذه المغالطة وتلك الذبذبة مرجعها إلى غفلة الوعي الشعري على التحقيق، وهي شيء يختلف كل الاختلاف عن ضعف الرؤية الشعرية. . . إن ضعف الرؤية الشعرية يعرض الصورة الوصفة للاهتزاز الذي ينتج عنه تعذر المطابقة بين حقيقة الصورة في إطار الفن وحقيقتها في إطار الحياة، ولكن ضعف الوعي الشعري بمرض القضية الفكرية لاهتزاز من نوع آخر، تنتج عنه المغالطة المقصودة أو غير المقصودة في مجال المواءمة بين الحقائق في دائرة الواقع النفسي أو دائرة الواقع الوجودي! أما المثال على ضعف الرؤية الشعرية فقد قدمناه إليك في ذلك البيت من القصيدة السابقة ونعني بها (حانة الشعراء)؛ وهو البيت الذي ينقل إليك هذه الصورة:
حمر الثياب تخال أنهمو ... يفدون من حانوت قصاب!
وأما ضعف الوعي الشعري فنقدم عليه مثالا آخر من شعر ابن الرومي عندما يقول:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد!
ولعلك تدرك أن هذا التفسير العجيب قد حفل بالمغالطة العاطفية من جهة وبالذبذبة الفكرية من جهة أخرى، وأنه بهذين المظهرين من مظاهر ضعف الوعي اشعري قد قضى على