الواقعية النفسية بصورة واضحة، لأن القضية الفكرية معتمدة على الصلة الواهية بين صروف الدهر وبكاء الطفل، قضية تخلو من منطق الواقع سواء أكان هذا المنطق في معرض الحقيقة النفسية أم كان في معرض الحقيقة الوجودية
ولا تظن بعد هذا أننا نضيق بالواقعية الاجتماعية في الشعر سواء أكانت في حدود مجتمع إنساني خاص أم في حدود مجتمع إنساني عام، وأننا لا نقبل غير هذه الواقعية التي تستمد مقومات بقائها من حقائق الوجود الأزلي الكبير؛ كلا، فكل واقعية تحمل في أحشائها توأمي التجربة الفكرية والشعورية مكتملي أسباب الحياة بنسب متقاربة أو متشابهة فهي واقعية نفسية تقبل في الشعر وتستساغ، وإن كنا نفضل بعد ذلك هذا اللون الأخير لأنه المرآة التي تنعكس على صفحتها كل نزعة إنسانية خالدة، أو لأنها الصفحة الأخيرة التي تلخص في سفر الحقائق الكونية كل ما سبقها من صفحات.
هذه الواقعية النفسية الوجودية التي تسير فيها لفتة الفكر جنباً إلى جنب مع خفقة القلب، هي التي تطالعنا من قصيدة (الله والشاعر) في أزهى حلة من حلل التصوير الفني في الشعر العرب الحديث. . . وهي واقعية تمثل القسط المشترك من الحقائق الكبرى المتبادلة تبادلاً كونياً بين الله والإنسان، وهي حقائق أشبه بالرواسب الفكرية والنفسية المتخلفة في قرار الذهن البشري منذ أقدم العصور؛ منذ أن بدأ الركب الإنساني يفكر في واقع هذا السير الطويل في طريق الحياة، ويناقش علة وجوده وغاية بقائه وما بعد فنائه، حيث ينتظره الجزاء الحق أو غير الحق ممثلا في عالمي الثواب والعقاب. . . ونقول الجزاء الحق أو غير الحق، ما دامت هناك صيحتان تؤمن إحداهما بأن الإنسان لا يملك أمام القوة العليا شيئاً من أمر نفسه ولا من أمر دنياه؛ وإنما هو يُدفع فيندفع ويوجه فيتجه ويسير فيسير، وأنه تبعاً لهذه القدرة المسلوبة والحرية المفقودة لا يجزى على سيئاته على سيئاته إذا أساء، فإن جزي عليها فهو جزاء غير عادل! إيمان بهذا كله تفصح عنه هذه الصيحة التي قابلها صيحة أخرى عمادها إيمان آخر، هو أن الإنسان يملك أمام القوة العليا كثيراً من أمر نفسه ومن أمر دنياه؛ فهو قابض على الزمام لا يفتله إلا برغبته، مبصر للطريق لا ينحرف عنه إلا بإرادته، عليم بالحقائق لا يحيد عنها إلا بمحض هواه، فهو مخير تركت له الحرية فإذا أساء فهمها فعلية أن يتقبل ما أعد له من جزاء، وإنه لجزاء يتسم بالحق ويتصف بالعدل