للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويقترن بالإنصاف!

وإذا أنت بحثت عن مكان علي طه بين أصحاب الصيحتين الخالدتين فإن مكانه هناك مع الفريق الأول. . . هو معهم في اتفاق النظرة واتجاه الفكرة ولكنه يفترق عنهم في احتفاظه بإيمانه الذي لا تزعزعه كل هذه العواصف والأعاصير. أنه يتناول هذه القضية الوجودية الكبرى من زاويتين: الأولى ليدافع عن الكيان الإنساني أمام سطوة القدر وحكمة القضاء، مستخدماً في دفاعه منطق الشاعر الفيلسوف الذي يعرض المقدمات عرضاً شعريا ترتضيه النفس ليخرج منها بنتائج فلسفية يرتضيها الفكر. والثانية ليعبر عن حيرته البالغة وحيرة القافلة الإنسانية حين تتخبط في صحراء الوجود تلتمس الظل الظليل في رحاب الواحة الإلهية، فراراً من وطأة القيظ ولفح الهجير! وهو بعد ذلك متأرجح بين البث والشكاة، وبين الأنين والحنين، وبين الثورة المهذبة والخضوع العميق. . . وهو آخر الأمر معذب لا يدري أين يستقر ولا إلى أي وجهة تمضي به قدماه: خطوة يأس تقذف به إلى الخلف وخطوة أمل تدفع به إلى الأمام، ولكنه في غمرة هذه التيارات النفسية المتباينة ضارع مبتهل لا يشك أبداً في رحمة الله!

وفي كل هذه الأجواء التي صعد إليها بجناح الشعر تمتزج التجربة الفكرية كما قلت لك بالتجربة الشعورية ذلك الامتزاج الذي نتعادل فيه النسب الفنية هنا وهناك؛ وإذا أنت في قصيدة (الله والشاعر) تلتقي بالحركة العقلية أو لا تتبعها الحركة الوجدانية، كما التقيت من قبل بالحركة المادية أو لا تعقبها الحركة النفسية في قصيدة (القمر العاشق) وهذا هو جوهر التفرقة بين عنصري الحركة الأولين في مرحلة التجسيم الشعري ومرحلة الواقعية الوجودية!

ولابد في الواقعية النفسية بعد هذا كله من تلك (اللافتات) الفكرية الضخمة التي تعترض طريق السائر في دروب هذا اللون من الشعر، وهي اللافتات التي تشير إلى (مراكز التجمع) الشعورية بعد كل نقله من نقلات العمل الفني. . . ونرى لزاماً علينا أن نعرض بعض النماذج من هذه اللافتات الفكرية التي تنظم أوضاعها ملكة الوعي الشعري في كثير من الدقة والإتقان. وإليك النموذج الأول الذي يمهد به الشاعر لدفاعه الثائر عن موقف الإنسانية المخذولة في ساحة الخالق العظيم:

<<  <  ج:
ص:  >  >>