وإذا أنت عدت إلى هذه القصيدة راعتك هاتان الملكتان تلك الروعة التي ترتفع بالتصوير الحسي إلى أفق باهر السناء، وهو أفق من الآفاق القليلة النادرة في الشعر العربي الحديث. وقيمة مثل هذا اللون من التصوير تتركز في أنه ينقل إليك المشهد المصور نقلاً أميناً ينفذ إلى حسك ونفسك، حتى ليخيل إليك أنك قد تخطيت مرحلة القراءة الذهنية الصامتة إلى مرحلة الرؤية البصرية الماثلة. . . بل إنك أو أنشدت هذه القصيدة أمام أحد مكفوفي البصر من متذوقي الشعر لتمثل (بعين الخيال) كل خطوة من قدم، وكل حركة من ذراع، وكل إيماءة من رأس، وكل هزة من خصر، وكل سمة من سمات هذه الرقصة الفاتنة في هذا الشعر الفاتن! ذلك لأن الشاعر كان في حالة فناء شعوري كامل مع الوجود المتحرك أمام ناظريه، وهو وجود يشمل الرقصة والراقصة في وقت معاً، وهو فناء غمر منطقة الحواس والعواطف فهيأ لها الوقود الفني الذي يغذي العين والفكر والخيال!
وهو تصوير يخلو من شطحات التخيل الشعري الجامح الذي ينقلب آخر الأمر إلى سلسلة من التهاويل التي إن استسغتها الصور النفسية حيناً فلن تستسبغها الصور الحسية في كل الأحيان. . وليس من التهويل في شيء أن يصف الشاعر تلك الرقصة الفنية هذا الوصف، وهو أن الراقصة كانت تسرى بين أعين الحاضرين وكأنها الطيف، أو كأنها في لحظة عناق مع الآلهة في سماء الخيال. إن التخيل النفسي هنا يستعير ألوانه من ملكة المراقبة الحسية التي شهدت عن كثب حركة الذراعين الممدودتين في الهواء، وحركة العنق المشرئب نحو أفق مجهول، وحركة الجسم المندفع إلى الأمام؛ وكل هذه الحركات قد استحالت في بوتقة اللقطة البصرية إلى حركة واحدة: هي العناق. . . وما دامت هذه الحركة الجامعة لم تلتق على مسرح الحياة بما يماثلها من واقع مادي، فلا مناص من أن تتدخل ملكة المراقبة النفسية لتصور لك حركة العناق بأنها كانت مع آلهة في الخيال! وتمضي كل ملكة بعد ذلك ترقب وتسجل، وكأننا بملكة المراقبة الحسية تنظر ثم تهتف: