تريدها الوجودية ليست أخلاقا وإنما هي معارضة للأخلاق. والحق أن الأخلاق نفسها لا تصير أخلاقا إلا إذا أكدت الحرية، إذ أن الأخلاق شيء آخر غير إطاعة الأوامر وتحقيق الفروض، ولعلها تتوفر في الثورة والرفض أكثر مما تتمثل في مظاهر الطاعة والرضوخ، وهذا كله لسبب بسيط وهو أنه لا توجد هناك أوامر ولا تتوفر لدينا أصول ولا يمكن أن يصح ما نشعر به، عند مواجهة قاعدة ما، من القداسة والضرورة، فعالمنا الأرضي خال تماماً من اللوازم، وإذا تكشفت بمضي الأيام صفة اللزوم في شيء ما فاعلم أنها من ابتكارنا وخلقنا. إن الإنسان هو الذي يضع الأخلاق وأحكامها بما يأتيه من الأفعال كلما تقدم به الزمن، والفعل الأخلاقي - كما ينبغي لنا أن نفهمه - فعل إبداعي لا يراعي القيم، ولا يماشي أصولا، بل يخلق - هو نفسه - الأصول
وبذلك يخلو الفعل الأخلاقي من التقليد والاحتذاء ولا يقتصر على كونه عملية من عمليات المراجعة ولا تظهر عليه أعراض الرتابة، فالوجوب صفة غريبة كل الغرابة عن المعنى الأخلاقي للأحكام العامة. فنحن - أي الناس - متروكون في الأرض بغير علامات تكشف لنا طريق أو القواعد تنظم بيننا العلاقات أو إله يبذل لنا من لدنه الهداية والرشد. هذا هو الأصل الذي تحاول الوجودية أن تقيم عليه بنيانا مذهبياً في الأخلاق. وقد يكون هذا الأصل داعياً إلى الفوضى أكثر مما هو داع إلى النظام على نحو ما جاه على لسان دستويفسكي حينما قال:(إنه إذا لم يكن الله موجوداً فسيكون كل شيء مباحا) ولكن الوجودية تنظر إلى هذه النقطة بالذات على أنها موضع الانفصال أو محل الاختلاف بين فلسفتهم وفلسفة الآخرين من الفوضويين أو الأبيقوريين، فعلى الرغم من أن الوجودية تبدأ بدء يصعب على الكثيرين أن يطرقوه أو يحلوا أية مشكلة على أساسه، فهي تجرؤ على القول بأنها قد أتت بشيء. إنها قد اعترفت بالوضع الحقيقي أولا ثم حاولت بعد ذلك أن تنظر في الأمر.
فماذا فعلت؟ إنها وقد أنكرت من أول الأمر كل معنى في الحياة واعترضت على كل دلالة في الوجود وآمنت بالتفاهة والعبث من وراء الكون الظاهر ومن خلفه، أرادت أن تضع الثقة في النفوس وأن توجد الدوافع لدى الأفراد. إن الحياة عبث فلنجعل لها معنى، والأيام ضائعة فلنحقق لها الغاية. ولا تكون الغاليات والمعاني مستمدة - كما هو حاصل حتى الآن - من عالم غير هذا العالم، ومن كائنات وهمية، وإنما مبعثها فعل الإنسان بريئاً من التقليد