هذا الرأي للفيلسوف الإيطالي المعاصر بندتو كورتشه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، وهو رأي نؤمن به كل الإيمان ويؤمن به كل محيط يقيم الشعر كما يفهمها الشاعر الفنان. ولقد رأينا أن ننقل هذا الرأي لأننا نعلم أن أناساً سيعترضون على هذا اللون من الشعر، لأنهم يخلطون بين رسالة الفن ورسالة علم الأخلاق. أو لأنهم يطلبون إلى الشاعر أن يكف ريشته عن تصوير أثر الغريزة الإنسانية، ناسين أنها نداء خالد يلبيه الأحياء منذ الأبد لتبقى الحياة، ويهتف به الفنانون على مدار الحقب ليبعثوا لروح في كل فن جميل!
أليس الفنان مطالباً بأن يمد عينيه ليرقب، وأن يرهب أذنيه ليسمع، وأن يهيئ نفسه وحسه ليسجل؟ هكذا كان علي طه في كثير من شعره، وكذلك هو في (الحية الخالدة). . . إنه لم يزد على أن جرب الحياة فأحس عمق التجربة، وأصغى إلى ندائها العميق فعاش في أعماق النداء، ورصد أدق خفقة من خفقات قلبها الكبير فأحسن الرصد، وسجل هذا كله تسجيلاً يتميز بالصدق والحرارة في مثل هذا الأداء:
ولفت ذراعين كالحيتين ... علي وبي نشوة لم تطر
وقد قربت فمها من فمي ... كشقين من قبس مستمر
أشم بأنفسها رغبة ... ويهتف بي جفنها المنكسر
تبينت في صدرها مصرعي ... وآخره العاشق المنتحر!!
هنا مزاج فني يشرف على انتفاضة الذهن والحس والشعور، ويخلع أثوابه الدقيقة على هياكل الكلمات، ويسلط أضواءه الكاشفة على مسارب الغريزة ومشاهد التجربة، وهي لحظة تمر بكل إنسان فهم المرأة حق الفهم، وعشق الفن كل العشق، واتخذ من الجسد سلمه إلى استكناه الطبيعة الأنوثية. وعلى درجات هذا السلم تنتقل ملكة المزاج الفني مخلفة آثار أقدامها على كل درجة، تاركة معالم الخطى في كل دورة من دورات الصعود ونحصي تلك الدرجات التمهيدية فإذا هي أربع تتفق معها في العدد تلك الخطى الفنية: الدرجة الأولى (ولفت ذراعين كالحيتين) والدرجة الثانية (وقربت فمها من فمي)، والدرجة الثالثة (أشم بأنفاسها رغبة) والدرجة الرابعة (تبينت في صدرها مصرعي). أما تلك الخطى الفنية التي تقودها ملكة المزاج الفني فهي تلك المقابلة الحسية بين حركتي الالتفاف في البيت الأول: