العقائد بالنظر أولاً في إثبات وجود الله فوحدته فبقية صفاته الثبوتية التي تنسب له صفات، والسلبية التي تنزهه عما يقابل هذه الصفات (وعددها عند أهل السنة عشرون لا مجرد السبعة التي ذكرها ابن رشد)؛ وأخيراً النظر في الأفعال الإلهية ومحاولة تأويلها وتأييدها على ضوء العقل. ومهمة ابن رشد هذه التي اضطلع بها على وجه لا بأس به من الجودة ليست بدعاً من الفلسفة؛ فكم من فيلسوف مسيحي قبله أو يهودي بعده يتصدى لمظاهرة الدين بالفلسفة، أو قل لنصرة الدين على حساب الفلسفة. ولكم أنتم أن تحكموا على مدى نجاح هذه المحاولات في كل الأديان، فإن لي في ذلك رأياً أحتفظ به أن يصادر حريتكم فيما يجب أن تنتهوا إليه بأنفسكم.
ويبدأ ابن رشد بتسفيه رأي الحشوية فيما ذهبوا إليه من ضرورة الأيمان بوجود الله إيماناً أعمى أساسه السمع والطاعة، والاكتفاء بالنقل ونصوص الدين دون أي تفكير من جانب العقل، فإننا إذا تأملنا القرآن ذاته وجدناه يحثنا بين حين وآخر على التأمل والتدبر والاعتبار، ولا وجه لمعترض أن يقول أنه لو كان الإيمان بوجود الله لا يصح إلا بالدليل العقلي لكان على النبي وهو يعرف العقيدة أن يقيم على ذلك الدليل، لأن العرب حتى في جاهليتهم يؤمنون بوجود إله، فلا حاجة به إلى أن يقيم الدليل على شيء مسلم به كمن يستجمع قوته ليدفع باباً مفتوحاً على حد تشبيه الغزالي نفسه، أو أن يتصدى للبرهنة على بديهية بينة بنفسها قد لا يزيدها البرهان إلا تعقيداً وغموضاً خصوصاً عند البسطاء والسذج، وهم الجمهور الذي خاطبه الشارع فهذا موقف الحشوية الجامدة الغريب.
أما الأشعرية فكانوا أسعد حظاً ولكن أكثر تطرفاً في الفلسفة مما ينبغي، فقد اعتنقوا نظرية الجوهر الفرد وأقحموها في إثبات وجود الله - وابن رشد يتصدى لبيان أن مسلكهم هذا ليس هو أيضاً ما يقصد الشرع وأنه فضلاً عن تعقيده يعسر فهمه على الراضيين فضلا عن الجمهور، فإن صح ما يقولون من أن العالم محدث لكونه مركباً من ذرات محدثة، فإن للعالم لا بد فاعلاً لا نستطيع أن نقول أنه محدث أيضاً (لأنه يلزمه فاعل أقدم، وهذا يلزمه فاعل آخر اكثر قدماً وهكذا إلى غير نهاية - وهو محال) أو نقول أنه أزلي قديم (لأنهم بهذا يناقضون مبدأهم القائل بأن المقارن للحوادث حادث مثلها، فلا يصدر عن القديم إلا القديم، ولا عن الحادث إلا الحادث وحتى لو تخلو عن هذا المبدأ للزمهم أن يبينوا لنا كيف