صدر الفعل الحديث عن فاعل قديم، وأية علة صيرته أولى بأن يفعل الآن فنه منذ الأزل).
سيقولون إن فعل الخلق مع أنه حادث فقد صدر بإرادة قديمة؛ وهذا التهرب بالتمييز بين إرادة الخلق وفعل الخلق سواء قدموا الإرادة على الفعل أو جعلوها مصاحبة له لا تغير من طبيعة الإشكال شيئاً. . . فعلى إمكانياتهما الثلاث (قدم الإرادة والفعل، أو حدوتهما معاً، أو قدم هذه وحدوث ذاك) يجب أن يفهموا أن الإرادة شرط الفعل لا الفعل، وأنها شيء آخر غير الفعل والفاعل والمفعول، وأنها إن كانت أقدم من الفعل لم تستطع أن تفعله بلا واسطة فضلاً عن أنها يجب ألا تظل متعلقة به دهراً لا نهاية له لكي يحدث الفعل بعد انقضائه إن كان لما لا نهاية له أن ينقضي خصوصاً وأن الإرادة يجب أن يطرأ عليها في وقت إيجاد المراد عزم على التنفيذ هو الذي يدفع إلى حدوث الفعل - إلى آخر ذلك مما يضل فيه العلماء فكيف بالجمهور؟ وابن رشد يستطرد ليبين مجافاة هذه الأدلة لذوق الجمهور وعقل الخاصة من العلماء بأن يحصر مسالكهم كلها في طريقين يناقشهما بالتفصيل، وينتهي في كليهما من إبطال المقدمات إلى إبطال النتائج، ثم يقرر أخيراً أن طريقة الأشعرية في إثبات وجود الله لا هي شرعية حقه ولا هي فلسفية حقه، وأنه ينقصها يقين الأدلة الشرعية وبساطتها.
ويعرض ابن رشد بعد هذا إلى طرق الصوفية في هذا الصدد. فيفرر في فقرة قصيرة أن معرفة الله نور يقذفه الله في قلب من استطاع أن يتجرد من عوارض الشهوة ودنس الحس - وهم يحتجون لذلك بنصوص دينية ويذهبون إلى كثير من الرياضات الروحية تحقيقاً لغايتهم.
ويرى ابن رشد أن هذه الطريقة مهما يكن من صحتها وضرورة تحقيق التجرد من الشهوة فعلا كشرط لصحة النظر والمعرفة؛ إلا أنها لا يمكن أن تكون عامة لكل الناس، وليست على أي حال ما يقصده الشرع بحث الجمهور على النظر والاعتبار والتأمل. أما المعتزلة فيعترف ابن رشد أنه لم يصله من كتبهم شيء ويرجح أن تشبه أدلتهم أدلة الأشعرية. وهذا عجيب من الفيلسوف ومأخذ لا يغتفر - أن يرجم بالظن في موضع كان يجب أن يلتمس فيه مذهب مدرسة حرة كالمعتزلة، فهؤلاء ليسوا كالأشعرية موفقين - أو ملفقين - بين مختلف الآراء على حساب بعضها البعض من غير شك؛ بل كانوا أصحاب نظر عقلي