الشخصيات الأولى شخصية ذلك الشاعر الفرنسي شارل بودلير. ومن الذي تناول بودلير بالدراسة النفسية فأجهده وأرهقه وأصابه بما يشبه الدوار؟ أنه الكاتب والفيلسوف الفرنسي جاك بول سارتر. . . وعلى الرغم من أن سارتر قد وصل من وراء دراسته لبودلير إلى ما لم يصل إليه في رأينا كاتب تراجم من قبل، فقد خرج من هذه الدراسة وهو مكدود الأنفاس يخيل إليك أن جبينه قد تصبب بقطرات من العرق!
لقد كان بودلير في رأي الحق إنسانا غير مفهوم ولا مهضوم، ومع ذلك فقد حاول سارتر ما وسعته المحاولة أن يفهمه ويهضمه، وأن يقدمه إلى الناس في صورته الشاذة المعقدة وقد زايلها أكثر ما فيها من شذوذ وتعقيد. . . وهكذا تفعل الدراسة النفسية حين ترفع السجف المدلاة على نوافذ الشخصية المغلقة ليندفع الضوء إلى شتى الجوانب والأركان!
وأين هي عناصر الشذوذ في هذه الشخصية البودليرية الغريبة الأطوار؟ هي في تلك النواحي الإنسانية المتباينة التي لا تكاد تجتمع في منهج واضح محدد يلم شعثها أو يؤلف بين ما فيها من شتات. لقد كان بودلير رجلا يفتش عن الآلام في كل مكان، ويسعى إليها سعيا متواصلا ليثور عليها آخر الأمر تلك الثورة المكبوتة العاجزة التي لا تدفع شرا ولا تدرأ خطيئة. . . كان مثاليا بينه وبين نفسه، ولكنها المثالية القاصرة على عالم الذهن وحده لا تكاد تتعداه. هو في (وجوده الذهني) إنسان مترفع عن كل ما يخدش الكرامة ويشين الخلق ويهبط بالسمعة إلى حمأة الموبقات، وهو في (وجوده الواقعي) إنسان غارق في لجج الإثم ضال في متاهات الغي متخبط في ظلام الوزر والمعصية. يدعو إلى الشيء ولا ينفذه، ويرسم الطريق ولا يسير فيه، ويضع لحياته خط سير هو أول المنحرفين عنه والخارجين عليه. . . يحب الوحدة ويتوهم في ظلالها راحة نفسه ونعيم دنياه، ولكي يظفر بها فلا بأس من أن ينفر منه الناس وأن يغضبهم فيه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يرمي شخصه بأقبح التهم، وينعت خلقه بأشنع النعوت، ولا ضير من أن يشيع عن نفسه أنه قتل أباه وانحدر من الشذوذ الجنسي إلى أدنأ بؤرة أحط مهاويه هذا كله ليحقق لنفسه تلك الوحدة المنشودة التي يخلو فيها إلى هواجسه بعيدا عن دنيا الناس. . .
ومع ذلك فما أكثر ما يضيق بهذه الوحدة ويفزع من أشباحها الرهيبة ويفر من ظلالها الخانقة! وهو، ذلك المخلوق الذي يسمو (بأفكاره) إلى مدراج العلاقة الجنسية النظيفة، تراه