للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بوضوح من أخباره وآثاره، من أخباره الخاصة وآثاره الفنية. . . كان يسعى إلى صهر روحه في بوتقة الألم والعذاب، وكان يحلو له أن يتأوه كلما أحس في نفسه حاجة إلى الثورة. كان يبغي أن يضطهد نفسه ليكون اضطهاده لنفسه عقابا لها، عقابا على عجزه وضياعه وما اقترف في حقها من أخطاء وآثام. أكان ذلك من جانبه لونا من القعاب الذاتي الناتج عن تغلغل النزعة الدينية المسيحية بين جوانحه كما ذهب إلى ذلك بعض النقاد؟ إن سارتر ينبذ هذا التفسير المتهافت الذي لا يستطيع أن يقف على قدميه، لأن هناك أدباء أشربت نفوسهم تلك النزعة الدينية منذ المولد وخلال النشأة والتربية ثم ساروا ردحا من الزمن في نفس الطريق الشاذ الذي سار فيه، ومع ذلك فما ابعد الشقة بينهم وبين بودلير لقاء الحياة بمثل ما لقيها به من عقاب للنفس واضطهاد للذات!

إن المسالة إذن ليست مسالة تلك النزعة الدينية من قريب ولا من بعيد، ولكنها مسالة مركب النقص ومركب التعويض. . . رجل كان يشعر في أعماقه أنه لا وجود له أو أن وجوده كان أشبه بالعدم، ومن هنا راح يتلمس شتى السبل ليقنع نفسه أو ليخدعها بأنه موجود. وهذه الخطوط المتنافرة التي كانت تحدد اتجاهات مصيره في الحياة، تعود آخر الأمر لتلتقي في نقطة ارتكاز وجودية عمادها الكبرياء. . . كبرياء الذات المهزومة!!

وما أشبه جوانب الشخصية البودليرية بعدد من الغرف النفسية التي تفتحها كلها بمفتاح واحد: غرفة للألم، وتسلمك هذه إلى غرفة أخرى للعذاب، وتسلمك هذه إلى غرفة ثالثة للعقاب، وتسلمك هذه إلى غرفة رابعة للسخط والثورة، وتسلمك هذه إلى غرفة خامسة للكبرياء. . . أعني أنه رجل يريد أن يجد نفسه لأنه تائه مضطرب، وهذا هو الطريق: بحث عن ألوان الشذوذ حتى اكتظت بها حياته، وحين تحقق له ما يبتغيه بدأ يتعذب، ثم طاب له أن يتخذ من هذه المرحلة معبرا إلى العقاب الذاتي الذي يتيح له أن يتبرم ويثور، وفي هذا تحقيق لكبريائه، وجوهر تلك الكبرياء الموهومة آهة حانقة على المجتمع ساخطة على الوجود. . . لتشعره بينه وبين نفسه بأنه موجود!!

هذه هي خلاصة رأي سارتر في شارل بودلير. . . ومنها يتضح لك أن الكاتب الفرنسي قد اجهد نفسه كل الجهد ليصل إلى ابعد أغوار هذه الشخصية القلقة المعذبة، بعد أن طاف بنظره الثاقب بينما خلف صاحبها من أوراق ورسائل، وما ترك من أخبار ونوادر، وما

<<  <  ج:
ص:  >  >>