نشر من آثار في الشعر والنثر، وبعد أن راح يجمع بين أطرافها المتناثرة ويوفق بين أحوالها المتناقضة. . . تلك الشخصية التي لا تكاد ترضى حتى تسخط، ولا تكاد تحب حتى تكره، ولا تكاد تقبل حتى تدبر، ولا تكاد تثور حتى تذعن، ثم تتخيل بعد هذا كله أن في الاستعلاء شيئا من العزاء! ومن هذه الخلاصة يتضح لكأيضاً اثر الدراسة النفسية في تناول الشخصية الفنية، ذلك التناول الذي يعرضها لك عاريا من كل ثوب من أثواب الغموض والإبهام!. . . ونحن حين نقدم إليك هذا النموذج النادر من نماذج أدبالتراجم، فإنما نقدمه لنستشهد به على أن التعقيد بقدر ما يطبع صاحبه بطابعه ويسميه بما يسميه فإن الوضوح من شانه أن يقوم بمثل هذا الدور في مثل هذا المجال!
ولقد كان الوضوح كما قلنا لك لازمة من لوازم شاعرنا المصري في كل فترة من فترات حياته وكل وجهة من وجهات فنه، ولك أن تعده أول مفتاح يهيئ لنا أن نضع أيدينا على منافذ شخصيته الأدبية والإنسانية، دون أن نلجأ إلى الفروض التي تضع الشيء موضع الاحتمال في أن يكون حقيقة من الحقائق أو لا يكون. . . ولقد كان علي طه واحدا من هؤلاء الذين يفتحون القلب على مصراعيه أمام الخلص من الاصدقاء، حتى ليخيل إلى من يعرفه منذ شهور أنه يعرفه منذ أعوام وأعوام. كان واضحا في فرحه كما كان واضحا في حزنه، وكان واضحا في سره كما كان واضحا في جهره، حتى لو أنه حاول أن يصمت لكان صمته فنا من الكلام، أو حاول أن يكتم لكان كتمانه ضربا من البوح والإفضاء! ومن هنا كانت حياته على لسانه سلسلة من الأحاديث وكانت في شعره سلسلة من الاعترافات. . . واستمع إلى هذا (الاعتراف) في موضعه من الصفحة الثالثة والثلاثين من (شرق وغرب)، وهو حديث ينبع من قلب ابيض كزهرة الحقل البيضاء:
إن أكن قد شربت نخب كث ... يرات وأترعت بالمدامة كأسي
وتولعت بالحسان لأني ... مغرم بالجمال من كل جنس
وتوحدت في الهوى ثم أشر ... كت على حالتي رجاء ويأس
وتبذلت في غرامي فلم أحب ... س على لذة شياطين رجسي
فبروحي أعيش في عالم الفن ... طليقا والطهر يملأ حسي
تائها في بحاره لست أدري ... لم أزجي الشراع أو فيم أرسي