للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الكبيرة، وكيف يستخرج منها الدلائل العميقة، وهذه هي المقدرة، وتلك هي البراعة. وشيء آخر يتصل بذلك، هو أن الأستاذ حين رسم شخصياته لا يعتمد في ذلك على الألفاظ وحدها يسرد بها أوصاف تلك الشخصيات سردا متتابعا، كما يفعل بعض كتاب القصة عندنا، ولكنه يوزع لمساته التصويرية على أجزاء القصة كلها؛ ليتسنى له استخدام الحوادث في الرسم والتصوير، فلا ينتهي من القصة حتى تكون شخصياتها قد استوفت حظها من دقة التصوير، وبلغت قسطها من قوة الحياة.

وقد قلنا أن الأستاذ حسن محمود لا يعتمد في إثارة قارئه على الحوادث الضخمة المثيرة؛ ونزيد هنا أن مادة قصصه لهذا السبب تمتاز في مجموعها بالبساطة والعمق؛ لأنه يتناول الحادثة البسيطة في مظهرها الخارجي، فيتعمقها بفكره وروحه وتجاربه، ثم يعرضها لنا، فنرى فيها ما لم نكن نرى، ونفهم عنها ما لم نكن نفهم، وهو من أولئك الملهمين الذين يلتقطون الفتات المتساقط من مائدة الحياة، فيحيلونه بفنهم أعظم غذاء للنفس الإنسانية في حياتها المثالية الرفيعة!

وأسلوب الأستاذ في قصصه، يلائم مادة هذه القصص كل الملائمة؛ فهو مثلها بسيط عميق، ينساب كالماء في رقة ودعة، لا من ضحولة مجراه، ولكن من طبيعة مسراه، فلا ترى فيه العبارات الطنانة، والكلمات الضخمة، وإنما هي كلمات طبيعية يؤلف بينها في حذق وبراعة، فإذا هي عميقة الدلالة، قوية الإيحاء، وافرة الأنغام والأصداء، والأضواء والظلال!

والأستاذ هادئ الشخصية، كما يبدو من خلال أسلوبه وطريقة عرضه لقصصه، هادئ حتى حين يريد أن يسخر من بعض الناس سخرية خفيفة مبطنة، فتراه يفعل ذلك في شيء اقرب إلى الحياء، وبصورة لبقة مهذبة قد تثير الضحك، ولكنها على كل حال لا تجرح الإحساس!

وهو هادئ أيضاً حي يلمس في قصصه أحزان الناس ومآسيهم، وليس ذلك من قلة تأثره بها، ولكن لأنه من أولئك الذين يحزنون في صمت، فيكون صمتهم ابلغ من كل كلام حزين! وصراخ الإنسان قد يثير الفضول أكثر مما يثير الرثاء والإشفاق، ولكن دمعة واحدة تذرفها عين محزون، في صمت وسكون، تهز النفوس، وتثير الدموع!

وهو حين يسجل الانفعالات النفسية لشخصية إنسانية، يحيطها بما يلائمها من الأجواء

<<  <  ج:
ص:  >  >>