للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من انفعالي للنكبة الهابطة والمصيبة النازلة، ويصعب علي أن أحول وأبدل في آرائي وان أكيفها حسب الظروف. فالرأي من دماغ الإنسان كالساعد في جسم الإنسان يستحيل أن لا يؤثر في ولا يمكن الرضا عن إيذائه وإيقاع الضر به، وفي الوقت نفسه يصعب علي أن أغير من شكله أو أبدل من منظره، والساعد ساعد إلى الأبد ولا يمكن أن يأتي عليه يوم يصير فيه ساقاً أو أستغني فيه عن خدماته فأبتره بتراً، كذلك في الرأي الذي أدين به والفكرة التي أعتنقها والحكمة التي ينطوي عليها بالي، فهي مشدودة إلى كياني شداً ومرتبطة بي ارتباطاً لا ينفع معه التقطيع والتجزيء والإبعاد.

وأنا أعلم أنه لا يليق بالمفكر إطلاقاً أن يكون على هذا النحو من الجمود الذي أصوره في الفقرة السابقة، وأدرك تماماً مقدار ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المثقف من المرونة في آرائه بازاء الأحداث، وأنا واثق بعد ذلك من أن الإنسان يرتقي في تكوينه ونشاطه العقلي بارتقاء ملكته في الانتقال من رأي وبمقدرته على التلون في فكرة كلما كان ذلك لازماً. ولكن ما أعتقده وأومن به شيء وما هو واقع بالفعل شيء آخر، فمما لا شك فيه أن لإنسان يجد الصعوبة في محاولته التنازل عما سبق أن آمن به واعتقد فيه وتحمس له وانه من الضروري أن تتوفر لديه كمية كبيرة من الطاقة النفسية والمجهود السيكولوجي حتى يتغلب على حنانه بالنسبة إلى تفكيره القديم وحبه للرأي السابق وتشيعه للمبدأ القبلي.

فالرأي الذي يدين به الإنسان ليس مجرد خاطر في بال أو بادرة في الدماغ وإنما هو دم يسري في الكيان بأجمعه حتى ليصير بمضي الأيام جزءاً من الكل وبعضاً من المجموع. وأخطر شيء هو ألا نرعى آراء الناس ومعتقدات الجماعة أية أهمية أو أن ننظر النفس من التكوين الظاهري، ومن هنا نقول إن كل احتقار يصدره الفيلسوف أو المفكر للآراء الجماعية مصنوع ومفتعل بناء على ما نراه بالعين أو نلمسه باليدين من التأثر الواقع في حياة الناس ونتيجة للانقلابات الباطنية داخل الفرد ذاته، فالحياة العامة إنما هي نتيجة حتمية لما تكنه النفوس على صنوفها من الإيمان والتقدير، بل إن الرأي ليؤدي إلى مظاهر عديدة من ناحية العلاقات بين الأفراد، فهذا يقتل ذاكالإيمان في قلبه بالخيانة وهذا يسفك دم ذاك لأنه اعتدى على عقيدته في الله أو سب إيمانه بالقبيلة والأسرة أو لعن إنساناً من ذوي قرباه أو ذوي حماه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>