مما يرى معه ابن رشد ضرورة عدم التصريح للجمهور بنفي الجسمية - كما أراد الشارع - حتى لا تبطل هذه المعاني كلها في أذهانهم فلا يصدقوا بها وهي من صميم الإيمان وإن أمسك عن تأويلها كما أمسك عن تأويل النفس والبرهنة على أنها ليست بجسم. فإذا كان لا بد أن نجيب على سؤال الجمهور: ما هو الله إذن! فلنقل لهم أنه نور - كذلك هو وصف الله لنفسه ووصف رسوله له - هذا إلى أن النور أشرف المحسوسات اللائقة بوصف أشرف الموجودات، وإن موقع الله من بصيرة المقربين كموقع النور من أعين الخفافيش، وأن النور من الأشياء الملونة هو سبب وجودها بالفعل - كل هذه أدلة يحشدها الفيلسوف على ضرورة الوقوف عند وصف الله بالنور دون أن نخوض مع الجمهور في نفي الجسمية عنه لكي ينقذ إيمانهم بالجهة والرؤية والحركة وغيرها من المعاني التي يشرع في تفصيلها.
أما الجهة فيرى ابن رشد أنها وإن أنكرها المعتزلة قد أثبتها الشرع في الآيات التي ذكرها. فمن الحقائق المقررة في الأديان جميعاً كون الله في السماء. ومنها تتنزل الملائكة بالوحي والكتب والرسالات وإليها كان الإسراء والمعراج. وليس يلزم عن إثبات الجهة ثبوت المكان فالجسمية كما يخشى المعتزلة (نفاة الجهة) فالجهة السطوح والأبعاد والأوجه وليست المكان. إذ المكان ما يمكن أن يشغله جسم، ولا يكون السطح مكاناً لشيء إلا إذا جاوره سطح آخر يكون محيطاً به. ولما كان تجاور السطوح لا إلى غير نهاية؛ فإن سطح الفلك الأخير ليس مكاناً ولا يوجد به جسم؛ أو - إن وحد به شيء - فهو لا جسمي (ولا يكون خلاء؛ لأن الخلاء حكمه حكم العدم - لا وجود له في الواقع وليس أكثر من أبعاد فارغة لا جسم فيها إذا رفعت صار عدماً) والخلاصة أن إثبات الجهة لله واجب بالشرع والعقل، وأن إبطالها إبطال للشرع (ص٦٨ - ٦٩) حقاً إن إثبات الجهة مع نفي الجسمية مما يعسر فهمه؛ ولكن هذه الشبهة لا يفطن الجمهور إليها ولا حاجة بنا إلى تأويلها. فإن أصناف الناس الثلاثة لن يجد جمهورهم وعلماؤهم هاهنا تشابهاً - أما الذين في قلوبهم زيغ (وهم الأوساط فيما بين العامة والخاصة أي الصنف الثاني) فهم الذين يشكون فيضلون - وهم عند ابن رشد أهل الكلام والجدل (وعدتهم ٧٢ فرقة متأولة ضالة) أما الفرقة الناجية فهي التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤله في صراحة لعامة الناس كما فعل الخوارج فالمعتزلة