يمثل فيها مدرستي الأدب القديمة والحديثة ويصل بينهما ما يكاد ينقطع.
وهناك صفة أخرى يتميز بها الجارم في شعره، تلكم هي (قدرته على التصرف) في نظمه في مختلف الأغراض، ولعله اكتسب هذه الميزة من كثرة ما قرأ وطول ما توفر على الدراسة والبحث مع حسن استعداد وصفاء وطبع وإدامة النظر في أشعار من سبقوه، ولن تكفي مطلقاً لخلق شاعر حسن التصرف كثرة القراءة وحدها؛ فما أكثر من المكثرين من القراءة، ولكن ما أقل من نجده من بينهم قد توافرت له أداة حسن التصرف في القول؛ بل لابد أن يعزز كثرة القراءة تهيؤ من خيال خصيب وذوق سليم وطبع صاف على نحو ما قال الجرجاني (إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل واحد من أسبابه، فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز، وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان) أو على نحو ما يقول بكر بن النطاح (الشعر مثل عين الماء إذا تركتها اندفنت وإن استهنتها هتنت) وكما يقول أحمد حسن الزيات في كتابه (دفاع عن البلاغة)(ىلة البلاغة الطبع الموهوب والعلم المكتسب).
فالجارم الذي يجود خياله بصورة للحرب العظمى تعج بالدماء وتتطاير فيها الأشلاء فتشبع منها العقبان في البر والحيتان في البحر، وتعبر عنها هذه الأبيات: -
طاحت بأهل الغرب نار الوغى ... وهبت الريح بهم زعزعا
طاف عليهم بالردى طائف ... فاخترم الأنفس لما سعى
وصاح فيهم للنوى صائح ... فصمت الأسماع مذ أسمعا
قد غصت الأرض بأشلائهم ... وأصبح البحر بهم مترعا
وآن للعقبان أن تكتفي ... ولآن للحيتان أن تشبعا
هو نفسه الجارم الذي يلين ويرق فيسيل ظرفاً وحلاوة في لهو - لحسن تصرفه - فيقول: -
يا سارقات الصبح طال ليلي ... فديتكن بعض هذا الدل
هل جاز في دين الغرام ذلي ... من لي بأن ألقى الصباح من لي؟