وما يحسنون من الدعاية وأساليب التهريج، من هؤلاء من مات كالشيخ عبد الحميد النحاس ومنهم لا يزال على قيد الحياة ولا شك أن حياة هؤلاء جديرة بالكتابة عنها فهم يمثلون لوناً يشبه ما ذخرت به كتب الأدب من أمثال (الأغاني و (العقد الفريد) وغيرهما، وللكتابة عن هؤلاء المعاصرين قيمة خاصة من حيث ملابساتهم العصرية واتصالاتهم برجالات العصر الحديث، وما يقترن بذلك من مفارقات وطرائف في الأدب والسياسة والاجتماع. وقد أشرنا على حمام أن يكتب هذه الذكريات ويجمعها في كتاب أو كتب، ولكنه يقول: يخيل غلي أن الحديث عنهم لا يحلو إلا شفوياً. والواقع أن حمام يتقمص الشخصية التي يتحدث عنها ويضيف إليها نفسه. . فإذا حكى أن فلاناً قال فالقائل هو حمام!
وإذا رأى إن ما يقصه لم يحدث في المجلس التأثير المطلوب ارتجل ما يصل به إلى ما يريد من التأثير ناسباً إياه إلى من يتحدث عنه! فهو وضاع فنان لا يشق له غبار. . وكذلك كان الروات والمؤلفون في القديم على ما يخيل إلي. فأكثر ما نقرأه من قصصهم ونوادرهم موضوع، لم يقصد به الكتب وإنما قصد به الفن. ولك أن تعتبره خيالاً على نحو الواقع، يشبه في ذلك فن القصص العصري. ونعود إلى حمام وطرائفه التي أغرقنا في سيلها المتدفق. حكي عن أولئك الظرفاء أنه التقى في بلده بإمام المسجد، فرآه يحمل بعض العنب في قرطاس، فبادره بقوله: ما هذا يا مولانا؟ عنب! ولماذا لم تشتر بطيخة بدل هذا العنب؟ ألا تعلم ما للبطيخة من مزابا لا توجد في العنب أو غيره؟ عنك عندما تقصد إلى الفكهاني لشراء البطيخة، يقف لك في احترام وتقلب أنت البطيخ، فيراك الناس فيقبلون يجاملونك بانتقاء بطيخة جيدة، وبعد الشراء يأمر الفكهاني صبيه ليحملها وراءك وقد يتطوع لذلك أحد الناس وقد يكون وجهاء البلد. وفي هذه الحركة مظاهرة ذات شأن، إذ يعلم الناس إن الشيخ قد اشترى بطيخة! فأين من هذا آقة العنب التي تأخذها وتذهب لا يدري بها أحد. . .
وإنه لمن الوجاهة أن تسير وشيخ البلد يحمل لك البطيخة. وعندما تقترب من باب الدار تنادي: يا ولد! تعال خذ البطيخة. وتلتفت إلى حاملها قائلاً بأعلى صوتك: تفضل! والله تفضل! ولا تخش شيئاً فإنه لن يتفضل. وبذلك يسمع الجيران ويعلمون إن الشيخ كريم يدعو بعزم شديد، كما يعلمون أنه يبر أولاده فيشتري لهم البطيخ. . وتدخل البطيخة الدار فيهرع إليها الأولاد، هذا يركلها، وذا يدحرجها، وذاك يزاحم أخاه عليها، وذلك يصيح: بابا