تصبح أية حاجة إنسانية أخرى حينما يكشف لنا الشاعر معنى ونغماً وراء مظاهره المعروفة ومصاحباته العادية. وربما لا يقع من نفس القارئ هذا النغم وذلك المعنى، وقد يبدو سخيفا أو غير صادق، فالأمزجة تختلف، والثقافات تتباين وتفترق، ولكنه لا يخطئ في أن يبده أي قارئ محس بأن هنا شيئا جديراً بالالتفات والعناية.
أما الشاعر الذي يبدي ويعيد في الحديث عن ملذاته وآلامه وحسراته التي يثيرها شخص المحبوب أو ذكراه فحسب، (مهما اختلفت القافية وتعدد الإيقاع) لا يعد ان يكون إنسانا لم تتسع أنانيته إلى أكثر من حاجته البسيطة المتعارفة، وهو يشبه العليل الذي اكتشف لذة الخبر لأول مرة، أو الرجل الصحيح الذي حيل بينه وبين النوم، فيفرح الأول حينما يتناول وجبة فاخرة، ويتألم الثاني لذلك النوم الهنىء الذي طلقه الآن، وهذه ولا شك أشياء إنسانية عادية لا غبار عليها ولا نقد فيها، ولكن ليس فيها ما يبرر وضعها فناً يسترعي اهتمام القارئ الصحيح، وربما يصلح مثل هذا الشعر ويجمل عند أناس هم دون طبقة هذا (الكوكب الجديد) الذي اكتشف (قارة الأكل) أو (قارة المرأة) وثم وقف يسبح بحمدها.
والدكتور ناجي بعد كل هذا قد قرأ بعض قصائد (لورنس)(وت. س. ايليوث) واضربهما من الشعراء المحدثين والقدماء عن الحب، أولئك الشعراء الذين نراهم جاهدين يفتشون عن الله، ويبحثون في الجنس ونشوة العفاف الروحي، ثم يعود كل منهما (وحقيبة وعيه) ملأى بالأحاسيس المختلفة، والأفكار المريرة أو العذبة، ملاى بالثعأبين التي تبرق كاللؤلؤ، وبالسلام الذي تعقبه أشد فترات الحرب تمزيقاً للأجسام والأرواح، وبالذهول الذي تعقبه اشد فترات الحرب تمزيقاً للأجسام والأرواح، وبالذهول الذي يسموه إلى طبقات السماء، وبالسخر الذي (يرى القمر في أمسية حب أشبه ببالون يلعب به صغار الأطفال)، ثم يذكر أن المساء ينام كرجل عليل ينتظر مبضع الجراح، وبالاختصار (بمعنى) أو (لا معنى) عظيم أو (بتيار وعي) ربما يرى في أنامل الحبيب أقطاراً متسعة ولو أنها بادية التناقض، أو بأحاسيس متناقضة بعيدة، حالكة الظلمة، أو شديدة الوهج.
ونحن لا نريد من هذا الحديث أن يقلد أي أديب أحاسيس غريبة عن نفسه بعيدة عن مطارح فكره، ولكن كقراء مخلصين نطلب منه إذا لم يكن لديه ما يؤلم ويحير، ويسعد ويشقي الشاعر والمفكر والقارئ المعاصر، أن يريحنا ولا يكلف نفسه هذا الجهد. ففي