للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

غير إرادة منه بدافع اضطراري من ذاته. إذ الاختيار إنما يكون عند الموازنة، والموازنة لا تكون إلا بعد إدراك لشيئين فأكثر. كأن يدرك أن له ذاتاً، وأن هناك غيرها في العالم من الجماعة أو الوطن، وأن هناك علاقة بين ذاته وهذا الغير تقوم على أداء واجبات نحو هذا الغير وأخذ حقوق من هذا الغير. ولكنه لم يدرك بعد أنه (منفصل) في هذا العالم وفي بيئته، إذ لم يزل يرى أن كل ما في الكون هو، وأن الكون لا يتعدى ذاته.

وعلى هذه الحقيقة النفسية عند البدائيين تقوم سياسة الغربيين المستعمرين في عصرنا الحاضر. يلبون المطالب الشخصية للأفراد، ويقسمون الرقعة الضيقة الواحدة إلى سلطنات أو إمارات ودويلات، ويساعدون رؤساء الإمارات أو السلاطين على تحقيق رغباتهم التي لا تنتهي ولو كانت عبئاً على الصالح العام، وينمون في ذواتهم وأشخاصهم معنى الزهو الخيلاء بما يضعونه تحت تصرفهم من مفاتن هذه الحياة. حتى لكأنهم لا يسمعون من الواحد منهم إلا ترديده: أنا! أنا! في كبرياء أجوف - تجاه الوطنيين فقط -.

وعن هذا الطريق السهل الذي لا يكلفهم شيئاً يأخذون ما ينفق فيه المستعمر عرقه أو ما تزهق في سبيله نفسه من غلات الحاصلات الزراعية والمعادن المستخرجة من أرض الوطنيين المستعمرين.

لكن الإسلام نادى بمصلحة الجماعة وجعلها في الصف الأول إذا تعارضت مع مصلحة الفرد. فرض على الفرد واجبات نحو نفسه ونحو جماعته، وجعل مبدأ (أن لا ضرر ولا ضرار) شعاراً لتعرف هذه الواجبات. بل أكثر من ندائه بالحرص على الجماعة ورعايتها رغب المؤمنين في أن يضحوا بما لهم من نفس ومال وولد في (سبيل الله). وليس سبيل الله إلا إعزاز الجماعة. إذ القربى إلى الله هي المشاركة في إسعاد الغير عن طريق تخفيف آلامه واطمئنان نفسه: فالنصيحة للغير قربى، وبذل المال له قربى، ودفع الضرر عنه قربى، وستر عرضه قربى، والقول المعروف قربى، والتسرية عن نفسه قربى. . . وهكذا. وكلما تعاون الفرد مع الفرد ورأى أن الفرد وجوده وكيانه وجود الأخر واستقراره تقوت الجماعة، إذ إنها تكون حينئذ كالبنيان الذي يشد بعضه بعضاً.

الإسلام نصح بالزهد في هذه الحياة. وليس الزهد إلا وضع حد بين مطالب الذات ومطالب الغير. ليس إلا وضع نهاية لرغبات الذات. ولذلك كان كفاحاً لتلك الرغبات. هو كفاح يتجه

<<  <  ج:
ص:  >  >>