رب فعل أنت تأتيه لكي ... تطرب الغير فتلقاه غضوباً
رب رأي كان عذباً ناضجاً ... عد من يأتيه خداعاً كذوباً
فلتخل الناس يحيون كما ... قد أرادوا ولتعش فيهم غريبا
ليست العزلة عنهم وحشة ... أنت بالعزلة قد تحيا طروبا
إن من أكثر من أصحابه ... لا يرى من الدنيا يوما رطيبا
إن سوءاً من أخ أو صاحب ... منهن ما بين الاثنين الحروبا
كان العاصي يستشعر في نفسه بغضا متبادلاً بينه وبين الناس وإن كان لاوجود له في عالم الواقع. فليس اختلاف الناس فيما بينهم في أحكام القيم إلا دليلاً على حيويتهم، وبغير ذلك لا يتميز خير من شر، ولا حق من باطل، ولا جميل من قبيح، والذكاء أو العقل في نظرة علماء النفس إنما هو (التكيف بالبيئة) وإذن تكون العزلة نتيجة لاضطراب النفس، وارتباك العقل، وعلامة على تخلف الفرد عن ركب الجماعة.
حياة كلها يأس وشقاء، وبؤس وهموم، وأنفاسه موزعة بين حسرة وزفرة ونقمة:
فإن تكن الليالي مثل هذا ... فإن الأمن عندي في اعتزالي
وصاحبنا - مع ذلك معذور، والمجتمع الذي حوله مسئول عما انتابه، ومأخوذ بجريرته التي ارتكبها، فلو أنه لقي في صحراء العيش واحة للصداقة تروح عن نفسه، لفض همومه، وسلك مع السالكين إلى المجد الذي طالما داعب طموحه، وهو الفيلسوف المفكر، والشاعر المرهف، ولكنه يقول:
ضاعت سعادة نفسي، وانبرى أملي ... ونال ما بي من جسمي فأضناني
إني ظمئت إلى خل ليؤنسني ... فلم أجد مؤنساً ما بين خلاني
فعدت للهم عل الهم يؤنسني ... إن كان في الهم أنس الواله العاني
فلم يستجب له أحد، وذهبت صرخاته مشلولة الأصداء:
قولوا لسارية الآلام في كبدي ... هل تقصرين، فإن الهم أبلاني
واحنوا علي إذا ما الهم أرقني ... وباركوني إذا ما الصبر وافاني
ولا تكونوا على نفسي إذا جزعت ... فإني مرجع نفسي لإيماني
لهذا كله حلت له العزلة بدار (لا يزور ولا يزار)