للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الآخر من الخانقاه قبة لقبره، رتب فيها درسا للحديث النبوي، وجهز الخانقاه بمطبخ يعد طعاماً للنازلين (من الخبز واللحم والحلوى كل يوم (وقد تم بناؤها سنة ٧٠٩ هـ

كان الجاشنكير حي الضمير، متأجج العاطفة الدينية راسخ العقيدة، شديد الخوف من الله، لذلك كان يدقق تدقيقاً عمرياً في مصرف كل درهم من دراهم بيت المال، حتى كان يحاسب السلطان نفسه على كل شيء، ويمنع عن القصور السلطانية ما يرى فيه إسرافا وتبذيراً، وكان من الممكن أن يرضى السلطان بهذا لعله إن الدافع إليه شريف، وإن القائم به من أخلص إليه، وهو الذي استدعاه إلى كرسي الملك، ولا يزيد عن كونه مملوك أبيه، وأن الأمين على مال الدولة إذا عفت يده وطهرت سرت الطهارة في جميع مرافق الدولة ودواوين الحكومة، وامتلأت الخزائن وزكت النفوس، وثبتت دعائم الدولة، وخمدت بواعث الفتن، وفشا الرخاء في الأمة وأمكن الإصلاح، وكل أولئك من عومل تثبيت الملك، وصيانة العرش، واتساع العمران في الدولة.

لكن هل يهم ذلك في شيء بطانة السوء التي تظهر للسلطان ما يحب، وتضمر ما يكره، وتريد أن تشبع ولو جاع الشعب، وتملأ خزائنها ولو خوي بيت المال، ولا تعيش إلا إذا أبعدت السلطان عن شعبه والمخلصين له، ونشرت جواً من الإرهاب يشغل كل امرئ عن نفسه، وقد اتفقت بطانة السوء عند الناصر، والحاسدون بيبرس الجاشنكير على ما وصل إليه عند الشعب من مركز ممتاز، ومكانة عالية، ومقام رفيع، والمرتزقة الذين يلتقطون الفتات، ويتصيدون الفضلات ويعيشون عيالاً على مال الأمة، واللصوص والمرتشون الذين قطعت أمانة الجاشنكير أرزاقهم، وخربت بيوتهم، فإما الكسب الحلال، وإما الجوع والفقر المدقع - اتفق هؤلاء جميعاً على إقصاء بيبرس والكيد له، وأخذوا يقلبون الأمور للسلطان، وينتجعون مراتع الباطل، ويبتغون الفتنة، ويشيمون بروق المكائد، وساعدهم على تحقيق بغيهم صر سن السلطان، وقلة تجاربه، فبدأ قلبه يتغير على بيبرس أكبر المخلصين له، والحافظين لدولته، والمتفانين في خدمته. وما أشد الحقد إذا غرس في الصغر واخذ ينمو ويترعرع مع الكبر.

كان بيبرس وسالار كفيلي المملكة والقائمين بأمرها، وقد أعانهما على حسن التفاهم في العمل أخوه في الخدمة وزمالة في ساحات الجهاد، ومحبة من طول الصحبة، ورأت البطانة

<<  <  ج:
ص:  >  >>