وأقبلت وهي ترنو ... مآذناً وقبابا
تود خوضا إليه ... لو استطاعت ذهابا
ثم لا يترك هذه الظواهر من غير أن يعلل لها تعليلا نفسياً يظهر فيه أثر ثقافته ومعرفته بالنفوس وطبها فيقول: -
والشوق إن غال نفساً ... لا تستطيع غلابا
وولاء الجارم لمليكه المحبوب لم ينسه حتى في أشد حالات سروره وفاءه لأبيه الملك الراحل، وذلك شأن النفوس الكريمة ذات البداهة الثاقبة، وإن من وفى للغائبين كان وفاؤه للحاضرين أولى وأجدر؛ فالمغفور له الملك فؤاد أعلى من قدره واستمع إلى شعره، فتراه هنا يستطرد إلى ذلك في إلماعة لبقة تنبعث من منابع نفسه قائلا: -
أبوك راش جناحي ... حتى لمست السحابا
وكان يصغي لشعري ... وكان شعري عجابا
وفي قوله (وكان شعري عجابا) إشارة من الإشارات الدقيقة الخفية إلى ما كان عليه الملك فؤاد من تذوق للشعر، وهي إشارة تعفي الجارم من مؤاخذته على الفخر في مقام مدح الملوك، ولعل تعبيره هنا (بكان) يشفع له ويجعل السامعين يتحسرون معه على أيام شبابه الخوالي.
أما وفاء النفس الطاهرة، وولاء القلب الواله الذي لا ينسى الجميل والإحسان؛ وأما دموع الوفاء الساخنة وزفراته الحارة، وأما ولاء الرعية للملوك فاستمع إلى الجارم يتلوه في رثاء الملك فؤاد لتعرف كيف يكون حزن الأوفياء ورزؤهم فيمن وفوا لهم: -
حملوه وإنما حملوا آ ... مال شعب بزهرها الغصن تندى
حملوا حامي الحقيقة ... والدين كما تحمل الملائك عهدا
ما على الدهر مرة لو توانى؟ ... أو على الدهر ساعة لو تهدى
قد نعينا فردا به كان عصراً ... وفقدنا عصراً به كان فردا
إنما الناس بالملوك وأعلى ال ... ملك شأواً ما كان حباً وودا
يا مليكي والحب يطحن نفسي ... كلما قلت: خف قال: سأبدا
أين تلك الهبات للعلم تزجى؟ ... وجميل العزاء بالحر أجدى