يقر فيرون بأن الوقت نهار، وأنه حي يرزق، وأنه يرى بعيني رأسه، وأن ذلك الشيء يلوح له أبيض، وأن العسل يبدو له حلواً، وأن النار تحرق كما يرى، ولكن هل الشيء في ذاته أبيض، وهل العسل حقاً حلو، وهل من طبيعة النار أن تحرق؟؟
يجيب فيرون: لا أدري.
فهو لا ينكر المرئيات والمسموعات وسائر المحسوسات، ولكن ما حقائقها؟ لا يدري. فالحواس هي كل ما يملك فيرون من هذه الدنيا، وهو يعتز بها ويؤيدها بقوة، وظواهر الأشياء وأعراضها هي كل ما يدرك من معرفة. ولكن هل هذه الظواهر هي هي بعينها حقائق الأشياء؟ كلا، فما الحقائق إذن؟ لا يدري. ولهذا يقول (تيمون)(إن المظهر ملك حيثما وجد) فإذا كان ذلك هو أمر الأشياء، فلنسأل مع تيمون هذا السؤال الثاني:
ثانياً: ما موقفنا حيال الأشياء؟
كل الناس أو على الأقل (فيرون) يستطيع أن يثبت للشيء صفة، وأن ينفي عنه نفس الصفة بمقدار واحد، لأن النفي والإثبات في كفتين متعادلتين لا مرجح لأحدهما دون الآخر: الشهد حلو، والشهد ليس بحلو. هذان الحكمان لا يثبتان في العقل، لأن أحدهما يمحو الآخر، فلا يعود لهما وجود، كالنار تختفي في الخشب الذي تلتهمه. فلا يمكن القول بأن هذا الشيء شريف أو سخيف، وأنه صحيح أو غير صحيح، وأن هذا الشخص هو تيمون أو غير تيمون. لماذا؟ لأن الأضداد متعادلة في تقلبها على الأشياء، ليس فقط في المحسوسات بل في المعنويات أيضاً من فضيلة ورذيلة وعدل وظلم وغير ذلك. ولا يمكن القول بأن الشهد أحلى من العنب، لأن التفضيل يتضمن الإثبات، ولا يمكن القول بأن الشهد ليس أحلى من العنب، لأن ذلك يتضمن نفي الحكم عن شيء وإثباته لآخر. والنفي والإثبات لا وجود لهما لأنهما متعارضان، وبالتالي يفني أحدهما الآخر.
فالأحكام المضافة إلى الأشياء والمعاني لا وجود لها في الواقع، وكذلك الأحكام المسلوبة منها، سواء كانت تقريراً أو تقديراً، لأن الناس في عرف فيرون (إنما يخضعون في أحكامهم للقانون والعرف. فيجب أن نلتزم الحياد التام من هذه الظواهر والأعراض، والخير كل الخير في تعليق الحكم). هذا هو الموقف التوقفي الذي يريده لنا فيرون حيال الأشياء، فماذا نفيد من ذلك؟ هذا هو السؤال الثالث والأخير فلنسأل: