لا يشغل الناس في حياتهم إلا التردد بين الشيء وضده، والحيرة بين الخير والشر. وهم كثيراً ما يجلبون الهم والغم لأنفسهم بأنفسهم فيتألمون أنهم محرومون مما يعتقدون أنه الخير الذي إن وجدوه أشفقوا من أن يفقدوه، ثم هم يتألمون لأنهم مرتكبون لما يعتقدوا أنه الشر الذي إن أصابهم تحسروا على أن قد ارتكبوه، فلا هم بالخير فائزون، ولا هم من الشر سالمون. فالرغبة حرمان، والحرمان ألم، والألم إتيان، والإتيان رغبة. فاجتنب الاعتقاد بالخير والشر تختفي كل الوساوس والهواجس، فإن الشك هو الخير الحق، ومتى استراح الناس من كابوس الخير والشر، فليضربوا بالحياة كيفما شاءت لهم الحياة، لا يفرحون ولا يحزنون، يأكلون حين يجوعون، ويشربون حين يظمئون، لا يطمحون ولا يتحسرون. راحتهم في أنهم لا يبالون، لأنه لا شيء في الحياة ذو بال.
هذا هو فيرون يعلق الحكم وينفي الأضرار ويتجاهل الخير والشر فيشرع لا يبالي بشيء ولا يهتم بشيء، لأن شيئاً بالغاً ما بلغ لم يعد يطرف عينه، أو يهز عطفيه ولو سقط انكسارك ولو أوشك هو على الغرق.
الشرور واقعة، ولكن لا نستطيع ولا يستطيع أحد أن يبيدها، وما على المرء إلا أن يخفف من وقعها عليه، وأن يهون على نفسه منها. وليعيش كسائر الطغمة الدهماء، خاضعاً لقوانين الدولة وعوائدها ودينها، لا يثور عليها، فقد لاقى سقراط جزاء ثورته، فامتلأت النفوس خوفاً ورعباً، وتجمدت الإرادة خنوعاً ومسكنة، حتى قال تيمون (أما نحن فلا نخرج عن العرف). وبهذا التوقف الاعتقادي نصل إلى الطمأنينة التامة والسعادة المطلقة حيث لا شر ولا ألم. وهل السعادة إلا غياب الألم؟ وهل ينشد الإنسان إلا السعادة؟ وهل من سبيل إليها إلا في تعليق الحكم وعدم المبالاة؟
(فالأشياء مظاهر لا ندري حقائقها، فلنقف منها على الحياد غير مبالين بشيء فنستريح ونطمئن ونسعد).
وإذا كان فيرون يلتمس السعادة في الشك، فإنه ينخرط في سلك المفكرين بهذه الطرافة الغائية التي أفسحت له مكاناً بينهم؛ ذلك بأن الناس إنما يختلفون في وسائلهم إلى غاياتهم أكثر من اختلافهم في غاياتهم. ولشد ما يكون الاختلاف إذا اتحدت الغايات. وإذا كانت غاية