عز على مماليك بيبرس السبعمائة ما فعلته العامة بسيدهم فثارت ثائرتهم، وهموا بوضع السيف فيهم، ولكن بيبرس الذي لاقى ما لاقى في سبيل خدمة الشعب والمحافظة على ماله لم يقبل أن يسيء إلى أحد، ونهاهم عما هموا به، وطلب إليهم أن ينثروا ما معهم من الذهب على العامة لينشغلوا بجمعه عن السب والإهانة والجري وراء الركب، وقد نفذ مماليكه أمره، وأخرج كل منهم حفنة من الذهب ونثرها على الشعب، ولكن العامة لم تلتفت للذهب ووجدت في القسوة على هذا العزيز الذي ذل مغنماً أكبر من الذهب؛ وبذئ الألفاظ دائماً أشهى إلى نفوس العامة من كل طعام آخر، فاستمروا يعدون خلف الملك، وهم يسبون ويصيحون؛ ولما علم خطباء المساجد إلى الوجه القبلي أسقطوا اسمه من الخطبة، وأعلنوا على المنابر اسم الملك الناصر.
لعن الله الدنيا:
كان أتباع المظفر يتناقصون كلما أوغل في السير للجنوب وما وصل إلى إخميم حتى كان أكثر مماليكه قد فارقه، فانثنى عزمه عن الوصول إلى أسوان وعاد أدراجه في طريقه إلى السويس ليذهب منها إلى بلاد الشام. وأرسل السلطان في طلبه بعض الأمراء برياسة قراسنقر فأدركوه في غزة وأراد من بقي حوله من المماليك أن يدافعوا عنه ليخلص من الطلب فقال (أنا كنت ملكاً وحولي إضعافكم ولي عصبة كبيرة من الأمراء وما اخترت سفك الدماء) ومازال بهم حتى كفوا عن القتال وسلم نفسه لقراسنقر وكذلك سلم مماليكه السلاح. . . وفي طريق عودة الجميع إلى القاهرة لمقابلة الناصر قابل الركب في الخطارة بمديرية الشرقية رسول آخر من الملك، أنزل المظفر عن فرسه، وقيده بقيد أحضره معه فبكى وتحدرت دموعه، فشق ذلك على قراسنقر وقال: لعن الله الدنيا! يا ليتنا متنا وما رأينا هذا اليوم! ورمي قلنسوته على الأرض من شدة الألم، مع أن قراسنقر كان أكبر الساعين ضد المظفر والعاملين على زوال ملكه. وبلغ الناصر ما أظهره قراسنقر من العاطفة نحو بيبرس فطلبه ليقتله، ولم يجد مجالاً للخلاص إلا الهرب إلى بلاد الشام. وليت شعري كيف