لم تكن أعوامه تخرج عن عام غزو في بلدة من بلاد الشام، أو عام موكب انتصار عقب فتح من الفتوح. وما كانت مواسم مصر على يديه إلا تلك المواسم النابضة بالحماسة، الجياشة بمعاني الرجولة والحياة القوية.
وكان ميدان القبق مشهد أكبر للمواسم وأحبها إلى الناس، سواء في ذلك العامة والخاصة. وها نحن أولاء نصف واحداً من تلك المواسم البيبرسية التي سادها السعد والتوفيق؛ فكان مبعث سرور للآلاف من الناس وآية مجد وجلال للدولة ورجالها.
كان ذلك في يوم شديد الحر في شهر رمضان؛ وكانت العادة أن ترش أرض الميدان الأسود بالماء قبل أن يبدأ فيه الاحتفال؛ فرأى السلطان الجليل (بيبرس) إن رش هذا الميدان الفسيح في مثل هذا اليوم القائظ وفي شهر الصيام فيه تكليف شاق على الناس. وأشفق أن ينالهم من ذلك أذى، فأمر أن يكف الناس عن الرش وأن يتحمل جنوده مشقة الاحتفال في القيظ بغير ترطيب الأرض بالماء.
وأبى الله أن يجزى مثل هذا العطف بغير جزائه. فكان من دلائل سعد السلطان ويمن أيامه أن ساقت الرياح غمامة في ذلك اليوم على غير عادة في مثل ذلك الوقت، فأمطرت الميدان حتى رطبت أرضه، ثم أقلعت. وما أتى وقت الاحتفال حتى رأى بيبرس وفرسانه ميداناً دهساً غير ملبد ولا زلق.
دخل السلطان العظيم على رأس قواته وجنوده، فكلف كبارهم بإظهار ما عندهم من البراعة في الرماية. ووقف الناس ألوفاً حولهم يعجبون بما يرون، وتثب قلوبهم سروراً بما يعجبون به، إذ رأوا حماتهم جديرين بما أولوهم من زعامة في الدفاع المجيد.
ثم ركب السلطان في قمة الصف، واصطف وراءه القواد والجنود بحسب المراتب المرسومة، وحمل كما يحمل إذ يكون في ميدان الحرب وحمل وراءه أتباعه كباراً وصغاراً، كأنما هم رجل واحد، ولهم إرادة واحدة. فإذا كر السلطان كانت الألوف وراءه كجزء منه، وإذا لف كانت الألوف من خلفه كأنما هي قطعة واحدة - وتعالت عند ذلك أصوات الإعجاب والحماسة، واختلطت بزفرات الدعاء والولاء، فلقد كان بيبرس العظيم مليكاً على الناس مسيطراً على الأفئدة.
وانتهى اليوم على ما ابتدأ به من السعد، ووزعت الهبات والصلات، وتتابعت العطايا