الوبيل يبيع العالم بثمن بخس، ويخيل إليه الوهم والإدراك الضيق أن العالم كله في كفة، وهو وحبيبته في الكفة الأخرى!. وكم من شاعر قدم العالم المسكين قرباناً لقدمي محبوبته بوقاحة وعدم مبالاة كان لديه مصائر البشرية. . . لهذا فإنا أحقد على هذا الحب؛ أولاً، لأنه إدراك فاسد وأنانية محضة، وثانياً: لأنه قصير الأجل يترك وراءه حقداً على العالم وكراهية للبشر، وثالثاً: لأنه يصرف الشاعر عن الإدراك الكلي للوجود، وبسجنه في دائرة لا تتعدى محبوبته فيظل يسبح بحمدها، ويقدمها إلى حد العبادة. . وهو بعد ذلك لا يخلو من كذب ورياء ومبالغة وخداع!
فأنا أكره هذا الحب الضيق كما أكره التعقيد. . بل أريده حباً أوسع أفقاً، وأبعد غوراً، وأرفع إدراكاً.
أنا لا أنكر على الشاعر أن يجب، وان يفرط في الحب، وأن يضطرم بين جوانحه عواطف وأحاسيس، وأن تنبت في روض مخيلته أمال وأحلام. . ولكن الجميل في الشاعر أن يجعل من حبه المحدود الضيق وثبته إلى عوالم جديدة من التعاطف الوجداني. . أن ينبثق في أعماقه ذلك الهيام الصوفي في حب أعم وأكثر شمولاً، وأوسع عاطفة فيتحول غزله إلى معنى رمزي جميل هو حب الإنسانية كلها والوجود جميعه. . هنالك تشرق في دنياه شموس من الأمل والرجاء. . هنالك يحلق في سماوات من الرفعة والسمو، وتصبح كل قصيدة من قصائد شعره كما قال شارلتن (كشفاً جديداً وتنبؤاً لحوادث المستقبل).
لا بأس بأن يتغزل، وأن يرسل من أعماق قلبه نغمات وألحاناً عذاباً، ويقدم من عصارة روحه رحيقاً لأرواحنا الظامئة - دائماً - إلى الخمرة الخالدة. خمرة الحق والجمال! وعند ذلك يولد الشعر الذي يستحق أن ينشد في موكب الإنسانية وهي سائرة قدماً إلى الشاطئ الجميل. . والإنسانية دائماً مشتاقة تواقة إلى مثل هذا الشعر كما تحتاج الجموع المجهدة إلى الراحة والظل الظليل، وكما تتوق النوق الظامئة إلى النمير العذب. .
هناك تتحطم الحدود أمام الشاعر، وتزال العقبات، وتصبح روحه ملكاً للبشر جميعه لا لوطن بعينه ولا لأمة واحدة. . وحينئذ تختفي أمامه الحزن والقنوط، وتلوح لناظريه بشائر الأمل والرجاء الجميل، ويأنف من البكاء - كالأنثى!! - على أطلال آمال ضيقة، وأحلام حمقاء! وهذا ما نراه عند الكثرة المطلقة من شعرائنا الأكرمين: عويل وبكاء كأنهم في مأتم