ثم هو إذ يعرض للفلسفة يتناولها بالتجريح في لباقة وحرص لأنها (تعطينا وسيلة. . . لكسب الإعجاب ممن هم اقل منا علما) وهو تهكم بالسفسطائيين المعاصرين له.
ويعرض ديكارت بفساد النظم السياسية المعاصرة فيقول (أما ما في نظم الدول من عيوب - إن كان في نظمها عيوب، والخلاف بينها كاف لاثبات كثير من العيوب في كثير منها - فإن التطبيق قد لطفها كثيرا بلا ريب، بل هو جنب من عيوبها، وتلافى منها رويدا رويدا ما لم يكن مستطاعا بالحكمة. ثم إن تلك العيوب تكاد تحتمل دائما أكثر مما يحتمل تغييرها كالطرق الملتوية بين الجبال تتمهد شيئا فشيئا لكثرة التردد عليها. وخير للسائل لأن يذهب في طريق أكثر استقامة، متسلقا فوق الصخور منحدر إلى بطون الوهاد).
وفي هذا من الغمز والتعريض ما لو شرح لفقد قيمة التعريبية والتفكيرية معا. وهو لهذا يعد صاحب (ثورة سياسية) لا (ثورة فكرية) فحسب، كما يرى بعض المؤرخين اعتمادا على افتتاحية المقال عن المنهج. فإن ديكارت - في نظري - كفلاسفة اليونان إذ نشدوا الإصلاح الاجتماعي فبدءوا بتغيير عقيلة المجتمع على أسس فلسفية؛ وكذلك كان ديكارت.
واختلف الناس في لمر هذا الثائر الجبار الذي اتخذ شعاره (عاش سعيدا من احسن الاختفاء)، ولم يحاول أحدهم ظان يعذر ديكارت من مناوراته الفكرية.
ومع ذلك فإنه إذ ينشد الإصلاح يرى أن (من المفيد أن نعرف شيئا عن أخلاق الأمم المختلفة يكون حكمنا على أخلاقنا أصح، وحتى لا نظن أن كل ما خالف عاداتنا هو سخرية، ومخالف العقل كما هو دأب الذين لم يروا شيئا) الذين لم تتجاوز معارفهم حدود بلادهم. لهذا ساح ديكارت حول (الكتاب الأكبر) واستفاد من أسفاره ما حقق له غرضه.
وما كان ديكارت ليعشق الجاه، بل لقد بغض إليه - على ما أوتى من بساطه في العيش - ولم يكن يحفل بمنصب يناله، ولا بجمال زائف غير جمال الحقيقة؛ حتى لقد آثرها علي جمال التي هوفى بيتها. ولم يغفل ديكارت الصدى المر الذي تردده مأساة جاليليو، فآثر الحيطة في كل ما يقول ويكتب، ولكن ألم يذكر حقا غير الأخلاق الموقوتة التي ذكرها في المنهج لانة لم يكن قد انتهى بعد من إقامة هيكل العلوم؟
الحق أن ديكارت أتخذ من الأخلاق الموقوتة سكنا موقوتا حتى يتم له هدم القديم لبناء الجديد. فهل تم له الهدم والبناء. وإذا لم يكن ذلك فكيف كتب هذه البحوث المستفيضه في