ادرسها اللغة العربية في الفرص السانحة. فقد كنت آمل أن تصرفني صحبتها عن الصديقات اللاهيات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كنت أحس نحوها بحب صادق ومودة عميقة، وحملني ذلك على ملازمتها دوما، بل دفعني إلى استصحابها في نزهاتي خارج الدار، حتى صار من المألوف أن تكون فلورا برفقتي كلما رغبت في نزهة أو قصدت إلى سينما. وكم كانت تحس بالغبطة والسرور لتلك النزهات، فكان شعلة سحرية من السعادة تتوهج في أعماقها فيفيض وجهها بشرا وهناءة! غير أنني في الحقيقة لم اكن دائم الرضى عن هذه الحياة، بل كانت تتملكني أحيانا مشاعر آسى ويرمضني حنين ملح إلى حياتي اللاهية. لكنني كنت أسارع إلى الإفلات من شراك تلك المشاعر فيعاودني الاطمئنان وهدوء البال.
وذات أمسية كنت أتنزه مع فلورا في شارع فاروق المحاذي للنيل فالتقيت بصديقي حمدي، وكنت لم أره من مدة بعيدة، فهتف في دهشة ممزوجة بالفرح: ماذا جرى لك يا سلمى؟! لم يعد بوسع أحد أن يراك.
فأجبته معتذرا: أنها ظروف الحياة لعنها الله. . حقا أنني مشتاق لرؤيتك.
فصاح مازحا وهو يرمي فلورا بنظرة استغراب: لعلك مشغول بهذه الطفلة. . ولكنني لا ارتضي لك هذا المصير الأليم بعد مغامراتك الرائعة مع الغيد الحسان.
وربت على كتفي مداعبا وانصرف مع رفاقه ضاحكا. وتابعت التنزه مع فلورا وعباراته الساخرة تموج في أعماقي. . لعلك مشغول بهذه الطفلة. . لعلك مشغول بهذه الطفلة. . أنا مشغول بهذه الطفلة. . كل وقتي وقف على هذه الطفلة. . لم اعد اعرف معنى للمرأة الناضجة. . فلورا تسرق شبابي. . فلورا تسرق شبابي. .!
مرت أيام وأنا مرهق الذهن بتلك الأفكار الثائرة. وعادت صور الماضي المغرية تراود مخيلتي في إلحاح. وضجت أعماقي بالسخرية المرة. . ما انفه عقلي واسخف سلوكي! كيف بددت وقتي طيلة هذه الأسابيع برفقة طفلة صغيرة نابذا الفتيات الناضجات اللواتي يقدمن كل ما تتوق إليه نفسي؟!
ثم تحطمت القيود التي كبلت بها رغباتي منذ أن هبطت على دار الأسرة الفرنسية، وجددت الصلة بنفر من صديقاتي القديمات وتبعا لذلك تغير منهج حياتي. لم يتبق هناك وقت