للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شان لي معها؟! بل لماذا دفعني ذلك إلى اعتزام الخروج مع إنني سعيت لإبعادها بنفسي؟! لا ادري بالضبط - والذي حدث بعد ذلك أن رغبتي تحققت عقب أيام قليلة، فتركت المسكن، ولكن لا إلى مسكن اخر، بل إلى إحدى المستشفيات الخاصة حيث سقطت صريع المرض.

أنفقت بضعة أيام في المستشفى لا أكاد أصحو حتى افقد وعيي وكنت أرى - كلما فتحت عيني - فلورا وأبويها إلى جانب سريري. وفي خلال أيام اشتداد المرض مررت بفترة قاتمة لا أكاد أتذكر منها سوى أخيلة باهتة يغلها ضباب كثيف. ومن بين ذلك الضباب المتكاثف يبرز زوجه فلوريا قويا واضحا بلون شاحب وعينين قلقتين وقسمات تتفجر غما واسى ولا اذكر متى حدث ذلك وفي أي ساعة من النهار أو الليل، ولكن الذي أتذكره أنني صحوت على صوت بكاء عنيف، وفتحت عيني في صعوبة فطالعتني صور أشخاص ملتفين حول سريري. لم استطع بادئ الأمر أن أميز أحدا منهم، إذ ابدوا أمام عيني كالأطياف. ثم تركزت ملامحهم شيئا فشيئا حتى تبينت فيهم الطبيب وفلورا وأبويها. لكن عيني تعلقتا بوجه واحد من وجوههم هو وجه فلورا. كانت الدموع تنحدر على خديها في غزارة وصوت نحيبها يثير في القلب اعمق الشجن. وهالني أن أراها شعلة ملتهبة من الحزن والألم، فابتسمت لها. وحينئذ حدث مالا يمكن أن يبرح ذاكرتي مدى الحياة. انطلقت تضحك في فرح جنوني وهي تحدق في وجهي كالمخبولة والدموع تنهمر من عينيها مدرارا. وتناهى ألي صياحها كأنه آت من بعيد وهي تهتف بصوت متهدج: (انه لن يموت. . . لن يموت. . . ألم ترونه كيف فتح عينيه وابتسم؟! لن يأخذه الله. . . إنه ليس شريرا. . . سيشفى بعد أيام قليلة وسأراه كل يوم. . . أليس كذلك يا ماما؟! لن يموت يا ربي. . . لن يموت). ثم ابتعد الصوت المتحشرج عن مسامعي وبهتت صورة وجه فلورا المائلة أمامي حتى لم اعد أتبين أو اسمع شيئا.

وتلك هي الذكرى الوحيدة التي ظلت واضحة في خيالي أيام الغيبوبة. ثم انقضت تلك الأيام وبدأت أثوب إلى رشدي، وما كان أسعدني بالنجاة حينما أنبئني الطبيب أنه يئس من حياتي حتى مملة ذلك اليأس على مصارحة العائلة الفرنسية بنهايتي الحتمية. وانه سعيد جدا إذ خاب ظنه أخيرا.

<<  <  ج:
ص:  >  >>