وانتظرت في لهفة زيارة فلورا وأبويها، فطال انتظاري حتى استبد بي القلق. فرجوت الممرضة سميرة - التي تشرف على تمريضي - أن تقوم باستجلاء الأمر. ولشد ما ذهلت حين أعلنت لي في اليوم التالي انهم اعتذروا عن زيارتي بكثرة المشاغل! واستولى علي الشعور بالاستياء. والقلق ولبثت أيام عدة أتوقع زيارتهم في شوق متدفق وأنا القي على نفسي عشرات الأسئلة الحائرة دون أن ابتكر لأحدها جوابا معقولا. ثم اخذ اكتراثي بالأمر يتضاءل يوما عن يوم اثر العلاقة الغرامية التي نشأت بيني وبين سميرة واستغرقت كل اهتمامي.
مرت الأيام بطاء كسالى وانزاحت عني سمات المرض تجاه بشائر الصحة. وكنت قد عقدت النية على مبارحة المستشفى في صباح اليوم التالي حين اقبل علي رسول من صاحب المنزل ينبئني برحيل الأسرة الفرنسية إلى فرنسا ويطلب ألي إخلاء الدار من متاعي. وللمرة الثانية اجتاحني الذهول والاستغراب، وانطلقت أسائل نفسي عن سبب هذا التصرف في حيرة وغضب.
وفي صباح اليوم التالي قصدت المنزل لأنقل متاعي إلى أحد الفنادق ريثما اعثر على مسكن آخر. صعدت إلى الدار بصحبة البواب ليساعدني في حزم الحقائب. وما كدت اجتاز الباب حتى هاجمتني وحشة قاتمة وطغت على مشاعري أحاسيس تفيض بالشوق والأسى. دخلت غرفتي وأنا أجيل النظر حولي حزينا آسفا. وبينما انصرف البواب إلى ترتيب كتبي وملابسي في الحقائب وقفت مشلول الحركة استعرض مشاهد حياتي منذ أن دخلت الدار حتى غادرتها إلى المستشفى. وفجأة وجدتني التفت إلى البواب واسأله بلهجة مرة: لماذا رحلوا يا عبده؟!
فتوقف البواب عن العمل، ونظر آلي في حزن وأجابني بلهجة كئيبة: أفلا تعلم يا أستاذ سامي؟! لقد ماتت فلورا فكره أبوها المعيشة من بعدها في مصر. . . ماتت ميتة أليمة تحت عجلات (المترو) بينما كانت تستقله صباح أحد الأيام إلى المدرسة.
وصمت لحظت ثم أردف يقول بلهجة ارتياب: لقد سمعت من البعض إنها انتحرت من اجل شاب أصيب بمرض خطير افقد الأطباء كل أمل في إنقاذ حياته وإنها لم تسقط من العربة قضاء وقدرا. . . ولكنها مجرد إشاعة كاذبة ولا شك.